دولة أبي زهير .. هلاّ استمعت إلى حجازي

mainThumb

29-10-2012 09:33 PM

 يوصف رئيس الوزراء الدكتور عبدالله النسور بأنه إصلاحي عنيد، ولا يقبل الإمعان في الخطأ، وبأنه على استعداد للتراجع عن موقف أو قرار إذا تبيّن له أنه كان قراراً أو موقفاً خاطئاً، ومن هذا الباب يأتي النسور لا لكي يشرف عموماً على العملية الإنتخابية برمتها، ولكن من أجل حل بعض القضايا العالقة أو المؤرقة للرأي العام، أو تلك التي تشكّلت بحكم اجتهادات حكومية لم تكن في محلها أبداًَ، وأدّت إلى خلق أزمات تراكمية، وبعضها أزمات كان بالإمكان تفادي وقوعها بمنتهى الكياسة والسهولة..

من بين هذه الأزمات أزمة هيكلة القطاع العام، وهي قضية من حيث المبدأ ضرورية، لكن ما حصل أن تطبيقها لم يكن بالصورة الحسنة، وأن مبدأ العدالة الذي نبتت منه فكرة الهيكلة تشوّه كثيراً وانقلب إلى الضد، وأن المسار الذي سارت في الهيكلة لم يكن هو المسار المبتَغى، فقد انحرفت الهيكلة عن مسارها، ما أدّى إلى خلق أزمة كبيرة في القطاع العام بعض آثارها قد تكشّف وبعضها الآخر سيتكشّف في قادم الأيام والأعوام..
 
وقد سبق لي أن كتبت الكثير من المقالات دعوت فيها إلى إعادة مراجعة الهيكلة مراجعة موضوعية عادلة وحيادية، كما دعوت فيها إلى محاسبة وزير تطوير القطاع العام العابر لثلاث حكومات عبر مشروعه الخلاّق، لأنه كان السبب في انحراف الهيكلة عن مبدئها ومسارها ووجهتها الحقيقية، ولأنه أمعن في عناده في تطبيقها دونما حيادية والدليل أنه كلما كانت لدى هذه الجهة أو تلك القدرة على التفاوض والضغط كلما حققت مزيداً من المكاسب، وليس أدل على ذلك من أزمة المعلمين وهي إحدى الأزمات التي خلقتها الهيكلة، واستطاع المعلمون في النهاية ونقابتهم العتيدة ليّ ذراع الحكومة والحصول على ما أرادوا من مكتسبات هم أحق بها دون شك، وقد وقفنا معهم حينها وقلنا إن مطالب المعلمين حق، وإن الهيكلة لم تنصفهم..!!
 
إن الأخطاء التي رافقت واكتنفت قضية الهيكلة كثيرة جداً، ولعل الوقوف على هذه الأخطاء أو الوصول إلى القناعة بأهمية مراجعتها وتصحيحها يقتضي منكم يا دولة الرئيس الرجوع إلى البدايات وهي ما ذكرها الدكتور هيثم حجازي رئيس ديوان الخدمة المدنية السابق، وهو الذي عاصر عملية الهيكلة، ويعرف تفاصيلها وبداياتها وخباياها، وقد أشار إلى بعض ذلك في مقال نشره في بعض المواقع الإخبارية الإلكترونية تطرق فيه إلى البدايات والإنحرافات والتجاوزات والأخطاء الكبيرة التي رافقت العملية، وأدّت إلى ما أدّت إليه من أزمات خانقة في القطاع العام، ولم تنته هذه الأزمات بعد، إضافة إلى ما سينجم عن المشروع من أزمات مستقبلية وتدمير لبعض المؤسسات العامة، والنتيجة أن الهيكلة ليس فقط لم تعط النتائج المرجوة، وإنما أدّت في بعض جوانبها إلى نتائج معاكسة تماماً..!!
 
 
لقد أخبرني الدكتور هيثم حجازي وكنت قد سألته عن دوره ولماذا لم يقدّم الرأي الفني والنصيحة الصادقة حينما كان في موقع المسؤولية على رأس ديوان الخدمة المدنية، وقال لي بأنه حاول مراراً إلاّ أن الوزير لم يستمع له أبداً، ولم يأخذ برأيه الفني في هذا الموضوع الخطير، وأضاف بأنه بلّغ وأشهد على ذلك، وأنه كان قد طلب مقابلة رئيس الوزراء في ذلك الحين ليخبره بخطورة الهيكلة التي تمت وتداعياتها السلبية على القطاع العام والدولة إلاّ أنه لم يُتَح له ذلك..!!!
 
دولة أبي زهير، لو قٌدّر لي أن أتشرف بمقابلتك لقلت لك الكثير، ولكني أدعو دولتكم وأنت الوقّاف على الحق، والمتطلع فعلاً إلى الإصلاح بعينين آملتين أن تطلب منْ هو أدرى مني وأخبر بخبايا الهيكلة والأعرف بالتجاوزات التي انطوى عليها تطبيقها، فاطلب يا دولة الرئيس  الدكتور هيثم حجازي واستمع إليه بأناه، فهذه القضية ليست سهلة ولا بسيطة، وإنما تتعلق بمستقبل القطاع العام وبمستقبل الكثير من مؤسسات الدولة الحيوية، وكلنا مع العدالة، ولكن شريطة أن تطبَّق بعدالة وبمعايير واضحة، وأن تراعَى الأولويات والمصالح العامة، وأن لا يتم أي اعتداء على الحقوق المكتسبة، ولا أن يتم إدخال مؤسسات الدولة في دهاليز البيروقراطية الخانقة، وإن منْ يسعى إلى تحقيق العدالة يجب أن يكون عادلاً بنفسه وعلى نفسه أولاً، ومن هذا الباب، كانت دعوتنا إلى ضرورة أن تسعى الحكومة لهيلكة رواتب وزرائها سواء أكانوا عاملين أو متقاعدين، وكذلك هيكلة رواتب كبار مسؤولي الدولة ومختلف الأجهزة المنضوية تحت ولاية الحكومة، وإلاّ فإن العدالة تظل منقوصة ومجتزأة وانتقائية، وبالتالي لن تكون مُرْضية ولن تكون مقنعة لأحد، فهل الحكومة ممثلة بوزير التطوير قادرة على توسيع مظلة الهيكلة لتشمل هذه الفئات والقطاعات، بحيث تطبق الهيكلة على الجميع وبمسطرة واحدة دون انحراف أو انحياز أو تطفيف، وبماذا يفسّر لنا وزير التطوير حصول الوزراء على مكافأة شهرية تصل إلى خمسة آلاف دينار إضافة على رواتبهم..!!؟؟ 
 
 
نؤمن بأن العدالة لا يمكن أن تتحقق بوجود استثناءات غير مبررة، فأنْ تجترح وزارة تطوير القطاع العام استثناءات بحجج غير مقنعة، وتركب رأسها في عدم استثناء جهات أخرى ذات حجج واضحة ودامغة، فهذا يعني أن العدالة التي سعت إليها الوزارة ووزيرها الخوالدة تحديداً لا تحمل إلاّ الاسم فقط، وأن مشروعها الكبير الذي تعتقد بأنه سيحقق لها نصراً مؤزراً، لن يُكتب له النجاح، لأن نظرة النجاح المنشودة، لا تكمن في القدرة على التطبيق والإلزام بالقوة، وإنما بمدى ما يحققه المشروع من خدمة للمجتمع ولاقتصاد الدولة على المديين المتوسط والبعيد..!! 
 
 
جميعنا مع العدالة، وقناعتنا أن العدالة لن تتحقق إلاّ بتشريعات عادلة، وكثيراً ما نشاهد حالات ظلم وقعت على أناس، لم تسعف التشريعات في رفعه عنهم، فأحياناً تكون العلة في التشريعات نفسها، وعلى أصحاب القرار في الحكومة أن يعوا هذه المسألة، حتى لا يصبح الظلم تراكمياً ومؤلماً..   
 
الهيكلة باعتقادنا تحتاج إلى إعادة دراسة ومراجعة، ولا أظن الحكومتين السابقتين اقتنعتا بها، لا بل سمعنا من بعض أعضاء الفريق الوزاري ما يُفهم منه ندم بالغ على مشروع الهيكلة، وليس عيباً أن تتراجع الحكومة الحالية عن مشروع قُدّم على عجل ومُرّر عبر حكومتين ولمّا ينضج بعد، فيما كانت فكرته الأولى زمن حكومتي سمير الرفاعي ومعروف البخيت مختلفة عما تم تطبيقه..!! 
 
دولة الرئيس أُطلب هيثم حجازي واستمع إليه ولا تلتفت لما يقوله لك وزير تطوير القطاع العام، واقرأ التفاصيل والحيثيات والبدايات والتطبيق وستكتشف أن هناك الكثير من الأخطاء والانحرافات التي اكتنفت الهيكلة، ولن يرضيك أبداً الإمعان في الخطأ أو الإصرار على مسار الانحراف، أو التجاوز على القانون والخروج على مباديء العدالة والنزاهة والحياد، وفي بعض المسارات ستكتشفون دولتكم أن مصالح خاصة جداً تم تمريرها تجاوزاً على القانون، فهل يجوز أن يتم ذلك، وهل دولتكم ترضون بذلك، وأنت من جاء ساعياً إلى العدالة والنزاهة وإحقاق الحقوق..!!؟
 
دولة الرئيس.. لقد كتبت قبل هذه المرة ودعوت إلى محاسبة المسؤول الأول عن ملف تطبيق الهيكلة، وهو وزير تطوير القطاع العام الحالي الذي ضممته إلى فريق حكومتك مع شديد الأسف، وأدرجت في مرافعة قدمتها في أحد مقالاتي أسباباً عشرة لمحاسبة هذا الوزير وإحالته إلى القضاء، وعليه أن يدافع عن نفسه ويفند كل نقطة في الأسباب العشرة، ولخّصتها في عدم احترام التشريعات والقوانين النافذة عند تطبيق نظام الهيكلة وخصوصاً القوانين الناظمة لعمل المؤسسات المستقلة.. حيث لم تقم الحكومة بتعديل هذه التشريعات قبل شروعها بالتطبيق، ما تسبّب بمخالفة صارخة لقوانين وتشريعات نافذة ممهورة بتوقيع جلالة الملك، وقد انطوت هذه المخالفات أيضاَ على تضارب في الإنفاق على الرواتب، فما كانت تصرفه بعض المؤسسات على رواتب موظفيها بموجب أنظمتها الخاصة أصبح لزاماً أن تصرفها بموجب نظام الخدمة المدنية، يعد تعطيل العمل بأنظمتها الخاصة الأمر الذي يحتم إدارج هذه المضروفات ضمن بنود الموازنة العامة للدولة، وليس من أي مصادر مالية أخرى، إضافة إلى مخالفة الدستور الأردني عبر إدخال مؤسسات عامة تحت مظلة الخدمة المدنية، في الوقت الذي تم تكييفها كمؤسسات ذات نفع عام، لكنها ليست من ضمن الدوائر الحكومية.. وذلك باعتبار نظام الخدمة المدنية نظاماً مستقلاً صادراً بموجب المادة (120) من الدستور التي تنص على صلاحيات مجلس الوزراء بإصدار الأنظمة المستقلة، وقصر ذلك على تنظيم دوائر الحكومة والتقسيمات الإدارية في المملكة، ولا تمتد هذه الصلاحية للمؤسسات أو الدوائر غير الحكومية، وقد جاء في قرارات ديوان تفسير القوانين أن بعض المؤسسات التي تم هيكلتها وإخضاعها للخدمة المدنية لا تُعد دوائر حكومية وإنْ كانت ذات نفع عام، وهو ما جاء أيضاً في قرار مشابه لمحكمة العدل العليا، كما انطوت الهيكلة على اعتداء على حقوق مكتسبة لفئات من موظفي المؤسسات المستقلة، وبخاصة حقوقهم في الدرجات والمستويات الوظيفية التي ترقّّوْا إليها بموجب أنظمة وتشريعات نافذة، ولم يبلغوها بالمزاجية أو المحسوبية أو القفز على القوانين والأنظمة.. فكيف يتم الاعتداء على هذه الحقوق دون مسوّغات مقبولة ومقنعة..!؟ إضافة إلى الأزمات الخانقة التي تسبّب فيها الوزير بتطبيقه لنظام لم يُدرس بما فيه الكفاية، وأدّى ذلك إلى موجة غضب واحتقان هائلة في جسم القطاع العام، حتى رأينا الحكومتين السابقتين تلملما أطراف الأزمة بتقديم المزيد من التنازلات والأعطيات والإرضاءات لهذه الجهة أو تلك، لإخماد الاحتجاجات التي اشتعلت في معظم مؤسسات وإدارات القطاع العام.. ولعل أزمة المعلمين كانت الأكبر، وكانت الكلفة المباشرة لهذه الأزمات باهظة على الموازنة العامة حيث وصلت الكلفة إلى  (362) مليون دينار للسنة الحالية، ما أدّى إلى خلق تشوّهات جديدة أخطر من التشوّهات التي كانت ماثلة قبل تنفيذ الهيكلة، وأدى ذلك أيضاً إلى إنهاك الموازنة العامة بدلاً من ضبط الإنفاق ناهيك عن الكلف غير المباشرة، وبالتالي فإن الهيكلة لم تحقق مبتغاها الحقيقي وإنما العكس تماماً..!!
 
من جانب آخر، أدّى المشروع الذي أصرّ الوزير إياه على تطبيقه قبل إنضاجه، إلى إرباك الدولة بكل مؤسساتها الرسمية والخاصة، وأدى بصورة غير مباشرة إلى إفشال حكومة الرئيس الخصاونة التي جاء تكليفها لإنجاز تشريعات الإصلاح السياسي، فانشغلت في إطفاء الحرائق التي أشعلها مشروع الهيكلة، مما ادّى إلى لخبطة أولوياتها، وإشغالها عن قضايا الإصلاح الحقيقية التي جاءت من أجلها.. والوطن والمواطن هما منْ دفع ثمن هذا الإخفاق الناجم عن التغيير السريع للحكومات، وبالتالي كانت هناك كلفة إضافية كبيرة سياسية واقتصادية ومالية بسبب مشروع فاشل تم تطبيقه دون دراسات كافية، مما يجب أن يتحمّل معه الوزير إياه كامل المسؤولية عن هذه التبعات الكبيرة..!! كما لم يميّز نظام الهيكلة الذي تم تنفيذه بين مجموعة الإدارة العامة أو الخدمة المدنية متمثلة في الوزارات والدوائر الحكومية، وبين مجموعة المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم على إدارة مرافق عامة ذات أهمية نسبية لا تستطيع العمل بكفاءة إلاّ ضمن حيّز مناسب من الاستقلالية الإدارية والمالية كونها تُدار وفقاً لمبادىء المحاسبة الاقتصادية، وإغفال هذه الطبيعة يعني تقليص دورها في التنمية والاقتصاد الوطني، علماً بأن التطورات التشريعية والاقتصادية والاجتماعية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي المعمول بها في إدارة أنواع معينة من المؤسسات والمرافق المهمة في الدولة تؤكّد على الطيبيعة الخاصة لها، مما يتناقض مع إدخالها ضمن منظومة الخدمة المدنية، وهنا نتحدث عن كلف وخسائر مستقبلية مدمّرة متوقعة..! وليس هذا فحسب، بل لم تحقق هيكلة الرواتب العدالة المبتغاة، والدليل أن موظفين حصلوا على زيادات كبيرة ملموسة وآخرين حصلوا على ملاليم.. وأن فئات من الموظفين لم تتبيّن رواتبهم الجديدة بشكلها النهائي بعد عشرة شهور على تطبيق الهيكلة..!
 
لقد أدخل مشروع الهيكلة مؤسسات القطاع العام في نفق بداية مظلم وكلما تعمّقت فيه كلما اكتشفت مدى حلكته، وهي عودة إلى أجواء البيروقراطية والإحباط والتراخي، وهل تظن الحكومة أن هذه الأجواء بلا ثمن.. أم أن ثمنها سيكون باهظاً.!؟ ومن يتحمّل هذا الوزْر..؟!
 
أخيراً دولة الرئيس، وأنت ابن القطاع العام الضليع القوي، انظر إلى ما خلقته الهيكلة من إرهاق كبير لخزينة الدولة، ولا تزال أصوات المعتصمين في هذه الجهة أو تلك تتعالى وتطالب بالمزيد إلى أن رأينا العدوى تنتقل إلى مؤسسات وشركات القطاع الخاص، فيحتج موظفوها ويعتصمون ويُضربون على العمل للمطالبة بحقوق ومكاسب جديدة..!!
 
ليست ألـ (362) مليون دينار هي الكلفة الوحيدة المباشرة للهيكلة، فثمّة كلف كثيرة بعضها مباشر وبعضها غير مباشر تحملتها الدولة، وهي أصعب من أن تٌحصى وتُحسب..!! وإني لأتساءل وعلى دولتكم أن تتساءلون أيضاً: منْ المسؤول..!!؟؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد