دِقَّة العرب في أشعارهم ( وبالشَّمائل .. ) !!

mainThumb

29-12-2013 01:58 PM

إلى المنبهرين بالأدب الغربي ، المعرضين عن رياض العرب وأشعارهم ، لا أدري سببَ هذا الانبهار ، ولا سببَ هذا الاعراض ... ولكن... أُمنُ أنه الانهزام ، والضعف والهوان ، أمام الآل والسراب من غُدَدِ الغرب ، وصديد الأوهام ...

يا أبناءَ الضادِ ، إنَّ في أحشاء لغتِكم ما يبهرُ الأنام وَزِدْ الجِنَّ والجآنَ ، وصدق ابنُ تيميَّة : أنَّ من أتقنها وتلحَّفَ بنسجها ، ازدادَ ذكاءً ونقاء ، فهل من سامعٍ أم في الآذانِ وَقْرٌ ، وعلى القلوب أقفال ؟!!

فهذا صاحب ( مَيٍّ ) غيلان الذي طافَ المفاوِزَ ، وَبَكى الديار ، يدمغُ الغربَ وثقافتَهم ببيتٍ ناهيك عن قصائدِه الحِسان ، فله القصيدة البائية التي تعهدها وتفقَّدها تَفَقُّدَ الضنين للمال ،وكان مَطْلَعها كبدرٍ شَقَّ دَياجيرَ الظلام !!

ما بالُ عينِكَ منها الماءُ يَنْسَكِبُ ... كأنَّهُ من كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ

أَسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ من أشياعِهم خَبَرا ... أم راجعَ القلبَ من أطرابِهم طَرَبُ ؟

وجاء في أحشاء قصيدتِه بيتٌ فيه الدِّقَّةُ والتَّرَبُّصُ مما يَدُلُّ على قوَّة شعرائنا وأشعارهم ، ولقد شهد له الشاعر والعلامة ( أبو تمام ) صاحب كتاب ( الحماسة ) في قصيدته ذائعة الصيت ( فتح عمورية ) عندما جعل خرابة عمورية بسيوف الحق أحلى من ربع مَيَّة معمورا يطيف به ( غيلان ) :

ما ربعُ مَيَّةَ معموراً يُطِيْفُ به ... غيلانُ أبهى رُبَىً من ربْعِها الخَرِبِ

ولا الخدودُ وقد أُدْمِيْنَ من خَجَلٍ ... أشهى إلى ناظري من خَدِّها التَّرِبِ

وعوداً الى بيت غيلان الذي شرعنا في هذه المقالة من أجله :

وبالشَّمائل من جِلَّانَ مُقْتَنِصٌ ... رَذْلُ الثياب خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْزَرِبُ .

ففي هذا البيت يصفُ غيلانُ صائداً من ( جِلَّان ) وهي إحدى بطون قبيلة ( عنزة ) الشهيرة ، وهذا البطن امتاز باتقان الصيد وامتهانه مهنةً خَوَّلتْهم أن يكونوا أسيادَه ، وشياطَنَه ...

ثم أخذ غيلانُ بتحديد الجهة التي فيها كمون الجِلَّاني للصيد ، فهذا الجِلَّاني يختارُ جهةَ الشمال ويكمن ويَتَّخِذَ أَهُبَّتَه ، ونعلمُ أن جهة الشمال للفريسة هو مقتَلُها لأن قلبَها في شمالها ، فيكون الجِلَّاني خبيرا علَّامةً في فنون الصيد والقنص ، فضربتُه قاتِلَةٌ لا محالة !

ومن تحديد الجهة ، ينتقلُ بنا غيلان إلى الوصف الجثماني لهذا الجِلَّاني ، فهو ( مُقْتَنِصٌ ) ، والقنصُ عند العرب هو من كان معه ( السَّلوقي ) وهي كلابٌ مُعَدَّةٌ لهذه المهنة ، وهذا ما سيأتي ذِكْرُه في أبيات من القصيدة ، ومطاردة هذه السلوقيات للثور الوحشي ، وسنفردُ مقالة – إن شاء الله – لهذه الأبيات في وقتٍ آخر .

وهذا الجِلَّاني ثيابه ( رذْلَةٌ ) وهذا الرَّذالة إما لفقرٍ , وإما من مستلزمات الصيد والقنص وهو ما يُسَمَّى ( التمويه ) الذي نراه في الفنون العسكرية .

والذي يترجَّحُ عندي أنَّه بسبب الفقر والعَوَزِ ، وذلك لأبيات جاءتْ في القصيدة تُوَضِّحُ ما ذهبنا إليه ، نُأَجِّلها إلى مقالة موعودة .

وترجيحنا للعوز والفقر يعطي الصائد الجِلَّاني إتقانا وخبرةً لا مثيل لها ؛ لأننا نعلمُ إذا كان الصائدُ فقيراً مُعْوِزَاً كان أكثرَ اهتماما بأساليب الصيد التي تضمنُ القوتَ له ولأسرته التي تنتظر ما يرجع به مُعِيْلُها .

وهذا الجِلَّاني ( خَفِيُّ الشَّخْصِ ) فهو يختفي عن أعين البقر الوحشي الحَذِرَة من كلِّ رِكْزٍ وهمسِ ، كاتِماً أنفاسَه حتى تحينَ ساعةُ الانطلاق .

أو أن جسمَه قليل اللحم ، وهذا نراه في أغلب من يمتهن القنص خاصة بالسلوقيات ، فهو أدعى للحركة والركض والمتابعة .

ثم هذا الجِلَّاني ( مُنْزَرِبُ ) وهو المُتَّخِذُ ( الزُّرْبة ) وهي حفرة يَتَّخِذها الصائد ليختفي فيها عن أعيُنِ الوحش .

وسوف نأتي على تكملة الوصف وعملية المطاردة بين السلوقيات والثور الوحشي في مقالة لاحقة ، مما يثبتُ عبقريةَ العرب والعربية .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد