"إسمعي يا إيران" هو كتاب صغير للعلامة الشيخ ابو الحسن الندوي ، نشر في المجمع الإسلامي العلمي ، ندوة العلماء، لكهنو، الهند ، والكتاب رغم صغر حجمه الا انه كنز وثروة من كنوز المعرفة الإسلامية ، يستحق ان يكون جدول أعمال لكل المؤتمرات التي تهتم بمقارنة الأديان ،او المقاربة بين الأديان والطوائف والفرق .
تضمن الكتاب مجموعة من الإنطباعات والمشاهدات التي رآها الندوي والوفد المرافق له الى ايران ،وحينما نقرأ الكتاب وكأن الندوي يخاطب الإيرانيين في زماننا ، مع أن زيارة الندوي الى ايران جاءت في عصر شاه ايران محمد رضا بهلوي ، اي في سنة 1973م ، حيث تسود فيها القوانين العلمانية ، ويغيب فيها التطرف الشيعي ،والتقى بالوفد رئيس وزراء ايران عباس هويدا ، وعدد كبير من كبار وزراء الدولة في ايران ، كما التقوا بعلماء ايران من مثل "آية الله العظمى السيد محمد كاظم شريعة مداري ، وآية اللع العظمى الشيخ حبيب الله ميلاني ، وغيرهم من العلماء .
جمع في الكتاب ، على صغر حجمة ، مشاهدات دقيقة ، وانطباعات جميلة ، وتحدث عن التقريب بين المسلمين ، لا سيما الحديث عن اخطر العلل بين المسلمين ، الخصومة بين المذهب السني والمذهب الشيعي عبر التاريخ ، مشيرا الى مواطن الضعف وحاجتها الى الإصلاح والبناء ، الزيارة هي عشرة ايام بدأت من يوم "الأثنين 9جمادي الأولى 1393هـ الموافق 11 يونيو 1973م /18 جمادي الأولى 1393هـ الموافق 20 يونيو 1973م" ، لكنها مُلأت بالمعلومات الوفيرة الغنية ، والملاحظات العلمية ذات الفائدة الكبيرة ، فقد زار الوفد مدينة طهران وقم ومشهد وأصفهان وشيراز ، واعتبر الندوي مدينة شيراز "درة إيران الشعرية والأدبية "، وزار في مشهد مسجد"عباس شاه الصفوي" ، وزاروا ضريح شاعر ايران الخالد " الفردوسي " ، صاحب الملحمة الفارسية "الشاهنامة" ، في مدينة طوس ، وفيها زاروا ضريح حجة الإسلام الإمام"ابو حامد الغزالي" ، وكان الوفد تواق لمشاهدة ضريح الخليفة العباسي "هارون الرشيد" الذي مات في طوس ودفن فيها ، ولم يعثروا على قبره ، حيث طمر في التراب ولم تراعي ايران اهمية لهذه الشخصية الإسلامية العظيمة .
وأكثر ما شد انتباه الندوي ورفاقه مشاهد "تخت جمشيد" الذي هو أقدم الآثار التاريخية الفارسية في ايران ، الواقع في مدينة شيراز ، يرجع تاريخها الى 2500 سنة ، وهي مركز حضارة من أرقى حضارات العالم القديم ، وقد استغرب الندوي ، وأخذته الدهشة بعدما تجول بهذه المدينة القديمة البائدة ، متعجبا ، كيف استطاع العرب رعاء الشاء والغنم وسكان الوبر والمدر ، أن يفتحوا هذه البلاد العريقة في المدنية ، والغنية في الحضارة والقيم ، وكان الجواب ، قوة الإيمان والدعوة ، وفضل تعاليم الإسلام ، والبعد عن أدواء المدنية وحياة الرقة والنعومة .
لقد اعتبر العلامة الندوي حضارة ايران " يونان الشرق " ، ومولد الجم الغفير من نوابغ الإسلام وعباقرته وأئمة الحديث والفقه وعلوم الحكمة والنحو والبلاغة والآداب العربية ، فالى جانب المشاهدات التاريخية والآثارية والتراثية القديمة ، سجل الندوي انطباعات جميلة حول شخصية الإنسان الإيراني وسلوكه في تعامله مع الآخرين الأغراب ، ومن ذلك : أن المسلمين في إيران لديهم قوة عاطفية ودينية كبيرة ورغبة على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم في الوحدة الإسلامية ، وتكوين جبهة موحدة ضد اللادينية التي تتحدى جميع الأديان ، والتي لا تميز بين مسلم سني او مسلم شيعي ، كما لمس الوفد عناية الإيرانيين الزائدة بالتراث القديم ، الفارسي والإسلامي ، والعناية الزائدة في التأليف في اللغة العربية واحياء التراث الإسلامي ، ونشر آثار علماء المسلمين ، وغيرة الإيرانيين في محاربة الحركات الهدمامة ، كالبهائية والقاديانية ، وسجل اخيرا ما يتمتع به الإنسان الإيراني من دماثة الأخلاق ورقة العاطفة وكرم الضيافة ، والتواضع .
وأخيرا ، يتوقف العلامة الندوي عند مقاصد الرحلة والكتاب ، ويؤشر على العلل والأمراض التي تلعب الدور الأكبر في رسم العلاقات بين المسلمين ، او بين أكبر طائفتين مسلمتين ، هما السنة والشيعة ، حيث وضع يده على الجرح المؤلم ليعالجه من خلال توصيف الداء ووصف الدواء ، بل وراح يخاطب عقول العلماء الإيرانيين والقادة وأولي الرأي والأمر ، بأن الأمر لا يتوقف عند قوة العاطفة الإسلامية ، ورغبتها في الوحدة ، ولا يتوقف عند إحياء التراث الإسلامية والإهتمام به ورعايته ، ولا يتوقف عند محاربة الأفكار والأديان الهدامة ، ولا في دماثة الخلق ورقة العواطف وكرم الضيافة ، بل عقد الأمر وتاجه هو عبادة الله وحده لا شريك له ، بجميع ما تحتوي عليه هذه الكلمة البليغة المعجزة ، من معاني الحب والطاعة ، والخضوع والخشوع ، وإنما جاءت الرسل الى تحقيق هذه المبتغى ، وأنهم لم يأتوا لاستعباد الإنسان للإنسان ، او لأسرة أو بيت ، او سلالة اوعرق ، وان طبيعة تقديس الدماء والعروق والسلالات والزعامات للأبناء والأحفاد ليست من رسالة الإسلام في شيء ، ولا تليق بالأنبياء والمرسلين ، ولا أبلغ من قول الله تعالى :" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ، ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، أيامركم بالكفر بعد إذ أنتم مســـلمون ""آل عمران 79-80" ، وقد لاحظ الندوي والوفد المرافق له أن المشاهد والحسينيات أكثر عمرانا وازدحاما ، والنفوس معلقة بها اكثر من المساجد ، مع أن ايران تمتلك ثروة كبيرة من المساجد الكبيرة الواسعة والفخمة ، بل وبعض مساجدها لا يوجد لها نظير في الأقطار الإسلامية ، فلا يرى فيها ذلك الزحام والحماس الديني والاندفاع العاطفي ، بل ان كثيرا من تلك المساجد تشكو قلة المصلين ، ومما سجله الندوي انتشار ظاهرة الصور لأهل البيت حسب ادعاء الإيرانيين ، بل وصورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، في بعض المساجد والبيوت ، وهي كثيرة جدا في المشاهد ، وهو مدعاة على رأي الندوي الى الوقوع في الشرك .
سجل الندوي خشيته الكبيرة والخطيرة أن يكون اصحاب الطريقة الإمامية الشيعية واندفاعهم العاطفي في حب أهل البيت ، قد أخذوا الشيء الكثير من حق النبوة التي هي مصدر كل خير وسعادة ومن شخصية الرسول الأعظم الذي نال به أهل البيت الشرف ، واستحقوا الحب والتقدير ، وقد اكتشف الندوي ذلك الأثر في أشعار الإيرانيين في مدح النبي وفيما قالوه في مناقب أهل البيت وخاصة في مناقب على بن ابي طالب والحسين بن علي ، حتى فاق الحسين أباه علي في قوة العاطفة والتعبير عن القلب ، وفيض الخاطر وتدفق القريحة ، كما لمس الندوي الفرق الشاسع عند الإيرانيين الشيعة في شوقهم وحرقتهم الى السفر الى النجف وكربلاء "والعتبات العاليات" ، وبين السفر الى الحرمين الشريفين ، وينوه الندوي الى مكامن الخطر والإنحراف حينما يصف الحالة بــ:""فقد اتجه تيار الحب والحماسة الدينية ، والعاطفة الفياضة ، الى هذا المركز الروحي ، وأحاطت به هالات التقديس ، وأهيلت عليه نعوت وصفات ، أخشى أن تكون قد جعلت الإمامة منافسة للنبوة أو مشاركة لها في كثير من الصفات ،وأندفع بذلك تيار الحياة كلها الى مركز يبدو وينمو بجوار المركز الأصيل الذي هو نبوة خاتم النبيين ، وأشرف الأنبياء والمرسلين ، وأثر ذلك في الأدب والشعر والتفكير والعمل ، ..، فإذا تلمس إخواننا المنصفون قلوبهم وخفقاتها واستجابتها وانفعالاتها ، رأوا أن هذه الملاحظةإن لم تكن ما يوافقون عليه مائة في المائة ، فإنها تدعوهم الى التفكير من جديد ، ولا شك أن أئمة أهل البيت كانوا خلفاء الرسول من غير نزاع في الدعوة الى التوحيد والدين الخالص "" ، ونوه الندوي الى انه :""لا بد للتقريب بين المسلمين وملء الهوة الشاسعة الواقعة بين اهل السنة والشيعة ، أن يوجه هذا التيار الى النبوة التي هي ملتقى كل مسلم ، والشخصية التي نبعت منها هذه العيون الدافقة ، وخرجت هذه الخيوط الذهبية التي أضاءت العالم كله ، انه عمل تجديدي عظيم يحتاج الى عماليق في العلم والفكر ، وقوة الإرادة وعلو الهمة والعلم الراسخ والفكر الثاقب ، إنه إذا تم هذا العمل أحدث إنقلابا لا يوجد له نظير في تاريخ الإنقلابات الفكرية والتجديد الإسلامي ، وهو الأساس السليم المتين الذي تقوم عليه الوحدة الإسلامية الفطرية الحقيقية "" .
أكد العلامة الندوي في كتابه على وجوب ان يغير الشيعة ، اذا ارادوا التقريب بين المذاهب وجمع شمل المسلمين وتصافي القلوب، نظرتهم الى صحابة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، وأزواجه وأمهات المؤمنين ، فلا يقوم تقارب حقيقي الا بالإحترام المتبادل للشخصيات الحبيبة المحترمة بين الأشخاص والفئات ، ويحاول الندوي اعتبار تلك العواطف امرا فرعيا ، موجها خطابه الى الشيعة بان فضل الرعيل الأول من الصحابة والذي يشتمه ويسبه الشيعة ، بفضلهم انتشرت الدعوة الإسلامية في الخافقين ، وأدخلوا أمما شتى بدين التوحيد الإسلامي ، فمن مطالب الدعوة الإسلامية ، كما يرى الندوي، ومن الإنصاف لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرته وتاريخه، أن نعرف للصحابة فضلهم ونثبت عظمتهم وإخلاصهم ووفاءهم وتوادهم وتناصرهم على الحق ، وأن ما روى عنهم من هنات او زلات فهي كنقطة سوداء في ملاءة بيضاء ، وهذا ما يقرره القرآن وتقرره الأحاديث المستفيضة ، والتاريخ الموثوق به، ويقرره المنطق السليم ، وهنا يقرر العلامة ابو الحسن الندوي :"" إننا إذا أردنا التقريب بين المذاهب حقا ، وكنا جادين في ذلك ، وجب أن يكون ذلك على أساس سليم فطري، وكل محاولة لهذا التقريب من غير هذا التغيير النفسي محاولة غير ناجحة وغير طبيعية ، ان التقريب ليس عملا صناعيا ميكانيكيا ، انه عمل القلب قبل ان يكون عمل اللسان ، وانه قضية داخلية قبل ان تكون قضية خارجية "".
ونرى الندوي ينوه في مجالس الشيعة في ايران الى ان الاهتمام بالقرآن وزخرفته وكتابته وتزيينه ونقشه لا يكفي مطلقا ، بل الشيء الأكثر ضرورة وإلحاحا هو تذوق النصوص القرآنية ، وان يكون هو مصدر كل شيء للمسلمين ، فهو منبع الأدب والعقيدة والعمل والمنهج والسلوك ، والمطلوب ، فعلا لا قولا ، هو إعادة الدين الى ما كان عليه في عصر النبوة ، لإنه أكبر جهاد وأعظم تجديد ، وليس دعوة القرآن مختصة بالأديان الأخرى ، والأمم غير الإسلامية ، بل هي موجهة الى فرق الأمة الإسلامية وطوائفها الى الأبد :"" تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ""آل عمران 64".
حقيق بنا وبمثقفينا ان يقرأوا الكتاب بتمعن ، فأنه رسالة جامعة شاملة نطق بها علم من أعلام أمة الإسلام في شبه القارة الهندية ، وأسد من أسود السنة النبوية الذين دافعوا بلسانهم وقلمهم عن رسالة الإسلام ودعوة التوحيد ، ومما يؤسف له ، ان ايران اليوم ليست ايران حينما زارها ابو الحسن الندوي ، فقد وقعوا بعد ثورتهم بشر أعمالهم، فاذا كان هناك بصيص أمل للتقارب السني الشيعي ، فانه الآن من المستحيلات الثلاثة ، لأن أيران بالغت بكراهيتها للنبي وللصحابة ولأمهات المؤمنين ، وأوغلت في تدخلاتها في شؤون أمة العرب وأمة السنة وأحدثت قلاقل وفتن كثيرة ، بل وساهمت في تدمير العديد من دول المسلمين ، مثل افغانستان ، والعراق ,وسوريا واليمن ولبنان .