سنة الخروج وعام القادمين

mainThumb

21-12-2016 10:34 PM

 لا تتعدى واجبات الملكة اليزابيت وحقوقها قبول استقالة الحكومات وقراءة رسالة العام الجديد. ولست اذكر في اي سنة نظرت هذه المخلوقة إلى العام الذي يعصر أواخره وقالت باللاتينية، "لقد كانت سنة مرعبة". أو مريعة.

ثمة ميل طبيعي لدى الناس الى اطلاق التسميات على السنين الآفلة. والقاعدة لا تتغير: يتوقف الأمر على المكان الذي تنظر منه إلى السنة. وإلى العالم. وربما إلى الحياة. فإن بعض الأمكنة برجها بائس وايامها فواجع وأعوامها متشابهة.
وفي بعض المناطق تدور الأرض بالناس إلى الوراء، فتؤدي الحركة المتضاربة إلى الكوارث والأعاصير. ولأن الطبيعة لا تُقاوَمْ إلا بالاحتماء، فإن أهل هذه الاجزاء إما يهربون إلى ملاجىء واقعة على خط فالق الزلازل، وإما يتدربون على العيش وخيامهم على اكتافهم إلى أن تدعو الحاجة، فتُضرب.
لا يمكن أن يخطر للكندي، مثلاً، أن تكون ضمن مؤونته، تنكة بنزين، كاللبناني في الحرب، لأنه لا يعرف أي ساعة يضطر إلى الهرب. يكتشف الإنسان في المناطق السريعة العطب أن ما تعلمه صغيراً عن أن "الإنسان سيد نفسه" قول قيل في بلاد أخرى ولشعوب أخرى، بلغت مستوى الحريات البشرية: حرية الخيار، حرية القول، حرية الفكر، والحصانة المادية البديهية. أما مواطن المشاعات المشار إليها، فيفتقر إلى كل هذه اللازمات، ولذا، عليه أن يأخذ حذره الدائم من فكرة الوطن، سريع الغضب، سريع الانفعال، سريع التوتر. ولذا، قد يتحول في لحظة عاصفة واحدة من ملاذٍ طارىء، ومن فيء، إلى حريق شامل.
وقد سميت هذه المشاعات العالم الثالث، وعلى وجه الضبط، سماها عالم فرنسي "ثلث العالم"، تمييزاً لها عن الثلثين الآخرين، اللذين يتمتعان بمقومات النمو والتقدم والاستقرار والحرية. وفي هذين الثلثين، تتفاوت الاشياء ايضاً، وتختلط معاني المصطلحات. فعلى سبيل المثال، طرد النظام "الديموقراطي" في تركيا 8 آلاف مدرّس معارض في يوم واحد، في حين ان طرد 10 مدرسين في المانيا، يمكن أن يؤدّي إلى فضيحة تطيح الفراو أنغيلا وحزبها.
في روسيا تسمح الديموقراطية للرئيس بوتين بأن يتناوب السلطة مع نفسه، من الآن وإلى أبد الآبدين. هل تذكر، مثلاً، أنه جاء إلى سوريا بإذن من البرلمان مدته ثلاثة أشهر قابلة للتجديد تلقائياً؟ الفارق يكمن هنا: تلقائياً. في الولايات المتحدة يخرج الرئيس بعد ولايتين، تلقائياً، ولكن بلا عودة.
2016 كان "عام الخروج"، إذا شئت تسمية واحدة، على طريقة الملكة اليزابيت: باراك أوباما يهنىء دونالد ترامب، الذي لم ينفك عن تسميته ساخراً، الدونالد، فإذا به في المكتب البيضاوي. وفرنسوا هولاند أدرك أنه كان دون حجم الرئاسة وامال الفرنسيين، فأعلن اعتزاله والعزوف. ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون خسر بغالبية بسيطة معركة البقاء في الوحدة الاوروبية، فقدّم استقالته إلى الملكة والناس، ومضى. ولحق به رئيس الوزراء الايطالي ماتيو رينزي، في استفتاء شعبي مشابه.
يصر رجب طيب اردوغان على الانضمام إلى الوحدة الأوروبية بادواته السلطانية. ولكن أيضاً تسمح الديموقراطية الأميركية لدونالد ترامب بأن يحشو الادارة بالضباط المتقاعدين، وأن يعطي الخارجية لرجل، مثله تماماً، يعرف فن الصفقات والغطرسة.
الديموقراطية، في نهاية المطاف، نص مطاط وخاضع لتأويلات عدة. الطروحات التي تقدمها المدام لوبن تطوى الآن في لغة بليغة وصيغة تقدمية. لكن الجوهر يظل رجعياً وديكتاتورياً يهدف إلى حكم الاقلية الكبرى بالاكثرية الصغيرة. بموجب النظام الاميركي ربح ترامب، أصوات "المجمع الانتخابي" وخسر التصويت الشعبي بأكثر من مليون صوت. لكن هذا هو الدستور. وهو، خلافاً للقانون، بلا ثقوب أو مسارب.
ما الفارق بين القانون والدستور؟ واحد قابل للاجتهاد، وآخر محلوف عليه. طبعاً يمكن تجاهله، لكن يمكن تأويله. وينطبق ذلك في الجزء الأول من العالم. الثاني والثالث معفيان. دائماً، لا تنسَ القاعدة. كل شيء يتوقف على المكان الذي تنظر منه إلى العناوين والمواد والمصطلحات.
ذلك هو الفارق بين الخروج من البيت الأبيض أو الاليزيه، الخروج من حلب. أو من مياه المتوسط. أو من ثكنة العزيزية في ليبيا، حيث التفت الأخ قائد الجماهيرية إلى شعب يحكمه منذ 40 عاماً وقال جملته الشعبية الاشتراكية العظمى: من انتم؟ من انتم؟ جراذين. من انتم؟ هل لاحظت أهمية المكان في النظر إلى قضايا الكوكب؟ التاريخ كله ذاكرة انتقائية تحفظ ما تشاء وتنسى ما تكره. فردية كانت أم "جمعية"، كما سماها في العشرينات، العالم الاجتماعي الفرنسي موريس بالفاكس. لذلك سمى بعض العالم ما جرى في حلب كارثة تاريخية، أما مفتيها السابق، الدكتور احمد بدر حسون، فقد تلقى خبر سقوطها بشيء من القدود الحلبية "صباح الحلو"!
خلال الحرب العالمية الأولى، واثناء الزحف الروسي على تركيا، شكت السلطة التركية في أن مواطنيها الأرمن سوف يقدمون الدعم للغزاة. وهكذا اقتُلع مئات الآلاف من الأرمن الابرياء من منازلهم في شمال شرق تركيا، وارسلوا جنوباً. وذُبحوا على الطريق. أهالي حلب ليسوا أول شعب يرى نفسه بين جدارين. نحن في لبنان شهدنا هذا النوع من الترحيل والفرز قبل ذلك. وشهدتها بلاد البلقان على نطاق أوسع. أما لخروج السوري من منطقة إلى أخرى، ومن الوطن إلى الغربة، فلا شبيه لأحجامه إلا في ما سميّ الحروب الكبرى.
مهم جداً إلى أي عالم تنتمي، وإلى أي ثلث من الثلاثة تنتسب. انفكت سلوفاكيا عن تشيكيا بقفازات مخملية. ليس هكذا انفصلت باكستان عن الهند. النظام الذي يحتضنك هو في النهاية التاريخ والجغرافيا معاً. ودعني اذكّرك، قبل أن تذكّرني، بأن تشيكوسلوفاكيا أيام النظام السوفياتي، أفاقت عل دنيا من دبابات حلف فرصوفيا لأنها تجرأت على الهمس بالحرية. وماذا في امكان الناس أن تفعل؟ ليس في امكانها أن تختار المكان والزمان والنظام في وقت واحد. لذلك، يختار الثلث الأول، السعيد الحظ، خروج قادته من خلال ورقة صغيرة، بينما الثلث الثالث يغرق في اليم والفناء والدماء، فيما يرسم جاره إشارة النصر.
هل لاحظت، جنابك، من هي القاطرة في موكب الاوتوبيسات الخارجة من حلب؟ إنه الغرب الاميركي والاوروبي خارج من الشرق، ربما بلا عودة، مثل ركاب الحافلات الذين رمدت منازلهم ترميداً تاماً. إنه بوتين نصير الشعوب المحبة للسلام، وايران نصيرة المستضعفين في وجه قوى الاستكبار. والغرب كان بين ركاب الحافلة الأولى، يلوح بيديه مودعاً، مستودعاً الروس بياناً شديد اللهجة، نقاطه على حروفه، "نقطة نقطة" كما كان يقول أبو لمعة، رحمه الله.
هو ايضاً عام القدوم. وكما حدث في الرعب الاميركي الماضي "الروس قادمون" (1)، لكن ليس في فيلم كوميدي جميل، بل في جزمة بوتينية معدنية النعل كي يُسمع صوتها من بعيد وفي كل مكان.
والقادم الآخر دونالد ترامب وصحبه وكتاباته اليومية على "تويتر". كان الاميركيون كلما رأوا في العالم حكماً فيه جنرال وبضعة عسكريين، سارعوا إلى تسميته "الطغمة" Junta. مبروك عليهم ادارة فيها ثلاثة من العتاة، ووزير خارجية مغطرس، ورئيس كان يرسم لبلاده طوال الحملة الانتخابية صورة الدولة المارقة، أو الفاشلة، أو كلتيهما.
"سنة مريعة" في الخارجين والقادمين. حروب وبارود وما هو اسوأ: خطاب الغطرسة وأسلوب "البلطجة" في معاملة الآخرين. عيَّن ترامب سفيراً في اسرائيل، اميركياً له منزل دائم في القدس، وداعماً دائماً للمستوطنات والمستوطنين، ولن يقطع مسافة طويلة عندما ينفذ ترامب وعده بنقل السفارة الاميركية الى القدس، مزدرياً مشاعر مليار و 600 مليون مسلم حول العالم، بينهم اولئك الذين يريد منعهم من دخول الولايات المتحدة.
في سنة الخروج هذه، مضى باراك أوباما إلى هاواي لتمضية آخر عطلة له كرئيس. عام سعيد. وحظ طيب مع مذكراتك. حتى بوش الإبن، كتب مذكراته وعبث بذاكرتنا وأعصابنا وقدرة العالم الخارجي على تحمل اختيار الاميركيين لرؤسائهم. وتَحبة إلى السيدة زوجتكم، الوحيدة التي ستفتقد بين مغادري البيت الأبيض. أولاً، بسببها الاعتباري، وثانياً بسبب السلافية الثالثة عند دونالد ترامب.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد