البذاءة فى العقل العربى! - وفاء محمود

mainThumb

13-06-2017 04:05 PM

 عبيد وأسياد، نبلاء وعامة، إقطاعيون وفلاحون، رأسماليون وعمال، حكام ومحكومون، مستوطنون وسكان أصليون، شمال وجنوب، الرجل والمرأة البيض والسود.. مجموعة من العلاقات الصراعية التى تشهدها المجتمعات الإنسانية منذ قيامها وحتى الآن، فالصراع آلية إنسانية لتطوير المجتمعات، الإشكالية تكمن فى كيفية إدارة هذه الآلية. بالحوار العقلاني، أم بالانفعالات العاطفية المغلفة بالبذاءة!

 
المجتمعات المستقرة لا يرجع الفضل فى استقرارها إلى وصولها لنموذج مثالى من القيم الحاكمة، بقدر اقتناع الكتلة الاجتماعية بصحة هذه القيم، وعدم شعور مكوناتها بالظلم، فتعيش فى استقرار حتى يخرج من يزرع داخلها ـ عن حق أو باطل ـ شعور بالظلم، من فئة ضد فئة.
 
الظلم والعدل مثلهم مثل سائر المعانى الإنسانية أمور نسبية، وتقوم التنشئة الاجتماعية بتربية الفرد لإدراك المثيرات الاجتماعية والتفاعل معها، ليصبح كائنا اجتماعيا ضمن الإطار الثقافى العام، الذى يحكم الجماعة طبقا للمعايير المتوارثة، والتى لا يصبح لها قيمة دون وجود طبقات اجتماعية، لا تختلف على أهميتها وجدواها، ويجرى الصراع الاجتماعى بين فئات المجتمع المختلفة وفق منهج وأسلوب لا يخرج عن هذه القيم والمعايير، وكلما توافرت آليات التعبير السياسى والاجتماعى والثقافي، والنفسى أيضا، ضمن المجتمع الاستقرار، ولا تقلقه المحاولات العقلية والعمليات الفكرية.
 
عند انسداد قنوات الحوار واليأس من التأثير فى السلطة الحاكمة والقدرة على التغيير، يحدث العنف والتوترات الاجتماعية، التى تأخذ أشكالا شتى كما حدث فى الفوضى العربية من هوجات ضد الأنظمة العربية، التى لم تكن مثالية تواكب طموح المنظرين، ولكنها لم تكن خائنة أو ضد مصالح شعوبها، فهى ليست إلا انعكاسا للتطور الاجتماعى وطبيعة المكونات الاجتماعية، وما إن سقطت إلا وانكشف الفراغ الحضاري، وارتد الناس إلى التشكيلات الاجتماعية البدائية المتخلفة من العشائر والطوائف والقبائل والعائلات للاحتماء بها، فهناك فرق شاسع بين هدم الدولة حيث الفوضي، وبين إصلاحها لتواكب العصر الحديث باحترام حقوق الإنسان وما يترتب عليها من حقوق وواجبات!
 
من أبرز علامات الفشل للهوجات العربية التى انفجرت، انهيار الحوار وتحللها من جميع الضوابط الأخلاقية الاجتماعية، ليس فقط على وسائل التواصل الاجتماعى المتحرر من القيود الاجتماعية، بل فى السجال السياسى الذى يتطلب أشد درجات ضبط النفس للدفاع عن القضية، أو وجهة النظر السياسية، التى يريد صاحبها إقناع الأطراف الأخرى بها، فإذا بالبعض يلجأ للبذاءة كلغة وأداة توصيل لأفكاره، فما أوصلته إلا إلى العجز والإفلاس الفكري، وقد أجد عذرا للوقوع فى فخها لبعض قنوات الإخوانجية فى الخارج، فلم تعد تملك إلا التنفيس عن الفشل، بالعدوانية اللفظية لتعويض خسارتهم الأبدية، وتجاوز محنتهم الشعبية، وأعتقد أن هناك خطورة فى مجاراتهم بنفس آلية البذاءة والانحطاط الأخلاقي، فيمن يتصدون لمهاتراتهم، فالواجب أن تترك لهم هذه الوسيلة المخزية، لتأكيد ما هو مؤكد، أنهم يعارضون بلا موضوع ولا مضمون ولا هوية، فهم كما قال المتنبي: لا يملكون إلا كبوة المتقاعدين ولؤم المتباغضين، فليسوا إلا ورقة ضغط فى أيدى سلطان تركيا، لا يعتد بها على أى صعيد رسمى أو شعبي!
 
أعتقد أن هذه الهوجات العربية هى الكارثة، التى تنبأ بها الفيلسوف المصرى (زكى نجيب محمود)، عندما نادى بمجتمع جديد أو الكارثة، مجتمع حديث وفق ثقافة العصر المعروفة بآلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتأكيد لا يوجد للبذاءة العارية بوقاحة دور بناء، فهى بالأصل فعل هدام منذ استخدامها فى الصراعات الاجتماعية، كآلية دفاعية نفسية للكتل السكانية المهمشة، فهى مكون تأريخى فى العقل العربى للتنفيس عن البؤس والإقصاء من إطار شبكة الضمان الاجتماعى للسلطة، فتعطيهم «البذاءة» إحساس وهمى بالقوة، عوضا عن الشعور بالإحباط من الطبقة الحاكمة للمجتمع.
 
تزايد النفور من البذاءة اللفظية ليس فقط لخدشها الحياء العام، لكنها قد استنفدت أغراضها، منذ انفجارها الأول من نصف قرن بانفعالات حادة وقبح غير مسبوق بعد هزيمة «67»، وظهور ما يسمى (بالأميات) القبيحة، بعد صدمة الهزيمة، وفشل السلطة فى الحفاظ على الوطن، وظهور الشعر البذيء لينفس عن الغضب المكتوم، ونجح رجالات الوطن الكبار، من تحويل الغضب إلى قوة دفع، لتحقيق النصر فى «73»، لتلقى بهذه الأميات فى مزبلة «الإنترنت»، فالكل يدرك أنه لا خلاص إلا إعادة بناء الكيان الوطنى من جديد، ليندمج مع الاقتصاد العالمي، حيث التنمية الحديثة، والاستفادة من تقسيم العمل الدولي، والاعتماد المتبادل، بحرفية اقتصادية تحت إشراف الصندوق الدولي، فى برنامج إصلاحى يتحمل كلفته الجميع، مما أقنع الجميع بجدوى التضحية لخلق مجتمع جديد، لا يحتاج إلى البذاءة، فعمر البذاءة ما بتعمر بيت!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد