ميسون حَنّا في ’’وكر الأفاعي’’ الكتابةُ الدرامية مِجَسًّا لفحيح الشرِّ الآدميّ

mainThumb

22-02-2021 04:11 PM

 يضم كتاب "وكر الأفاعي" للأديبة الدكتور ميسون سليمان حنا، والمصنف ضمن كتابة درامية راهنة يؤرخ لها صدوره الرقمي سنة 2020، أربعة نصوص هي: "وكر الأفاعي"، و"الدفين" و"خيبة" و"السراب".

 

تنصت المبدعة في صمت تام إلى ضجيج الفوضى الذي يعتري العالم فتختل تحت صداه المعاملات والأخلاق، يندفع الشر الآدمي من كل الذوات، وينبري مسرعا في كل اتجاه جارفا ما تبقى من سكينة في قلوب الخلق، منذرا بطوفان من الشر والغدر والطمع والأنانية لا يبقي ولا يذر.
 
"وكر الأفاعي" كتابة مختزلة تختصر الحوارات الممطَّطة والمشاهد الطويلة لتعلن نهاية حبكة قد تومئ بحصيلة صراع قاس بين الشخوص، وقد تبقيها عالقة يستمر اعتمالها في ذهن المتلقي.
 
في اختيار عناوين هذه المجموعة المسرحية ما يخدم توجه حنا ميسون في خيارها الإبداعي؛ فهي بالكاد تلفظ اسما متفردا من قبيل: "الدفين" و"خيبة" و"السراب" لتورط القارئ في توقعات لا يتحرر منها إلا بعد اختراق كل بواباب اللوحات التي شادت بها معمارها الدرامي.
 
وتبدو المسرحية الأولى، من خلال عنوانها "وكر الأفاعي"، بمفردها حالة إضافة بين لفظي: "وكر" و"أفاعي" لن تسعفنا في الخلاص من التوقع بقدر ما تربك انتظاراتنا حين نستعرض شخوص هذه المسرحية فتطالعنا الثعابين عوض الأفاعي، ويركبنا سؤال لحوح: لماذا تخييب أفق انتظارنا منذ البداية؟
 
لا نكاد نعثر على اسم "أفعى" ضمن أسماء الشخوص، حيث تم ترتيبها على الشكل الآتي: 1. المغامر، 2. الثعبان الزعيم، 3. الثعبان الثاني، 4. ثعابين جنود، 5. كبير الثعابين، 6. المهرج الأكبر زعيم السيرك، 7. الرجل المقنَّع.
 
ورفعا لما يبدو تقابلا أو ترميزا، استدعينا التعريف المعجمي العربي لكل من "أفعى" و"ثعبان".
 
فأفعى، في باب "ف ع و"، جمع أفاعٍ (الأفاعي) مؤنث أفعوان: ذَكَرُ الحَيَّاتِ. أفعى ج أفاعٍ (الأفاعي): حيَّة. (المعجم العربي الأساسي: 944- 945).  أما الثعبان، من باب "ث ع ب"، ج ثعابين: 1. اسم عام لكل حيوان من مرتبة الثعابين وهو أنواع. 2. الحية الطويلة الضخمة. (نفسه: 213).
 
وانطلاقا من هذين التعريفين نستنتج وجود تداخل بين الكائنين السُّمِّيَيْن من جنس الزواحف بما يُعَمِّم رمزيته على كل كائن تنطوي دواخله على الشر والأذى.
 
كما تناول ذلك د. محمد عجينة في استعراضه حضور "الحية في أساطير الخلق وتوحدها بالشيطان/إبليس"؛ وفي "الحية وإبليس والمرأة في الخطاب الأسطوري الإسلامي". (عجينة: 311- 322). ولعل علاقتها الروحية بالشيطان، وعلاقتها الرمزية بالأنثى الآدمية ما يشِمُها (من الوشم) بالوسوسة والشر وإلحاق المكروه بالآخرين.
 
وبعودتنا إلى الحوار الذي جمع بين المغامر وزعيم الثعابين تتأكد هذه الصفات القدحية في كيان الحية، ثعبانا كانت أم أفعى. وحين يلتحم جسداهما في كائن مسكون بالسيطرة، مهووس بحب السلطة واستكثار التابعين، تنكشف الخبايا الدنيئة في نفس الكائن، وما ينتقي من مسالك ليصل إلى غايات تنتفي فيها مجموع الأخلاق التي تؤمِّن حياة اجتماعية متوازنة ومتكاملة بين شركائها.
 
يغدو الثعبان قرينا للآدمي في شخص "المغامر"، وهذا الأخير، في حد ذاته، ليس نموذجا خيِّرا لبني البشر. فالالتحام بينهما وتحولهما إلى هيئة كائن ممسوخ يومئ إلى الاستحالات الخطيرة في كيان البشر اللاهث وراء الزعامات والمناصب والمكاسب، لا ترعوي نفسه في تحقيق ذلك عن الكذب والنفاق والتملق والاحتيال والمكر:
الثعبان: لست من الجهالة كي أطلب منك الصدق، لأنك حتما لن تمتدحني برغبتك، ولكني آمرك أن تفعل هذا.
المغامر: الفن يتطلب الصدق..
 
الثعبان: لا أطلب منك فنا، بل مديحا أطرب به وحدي دونك ودون أبناء جنسك ممن يشتموننا.
المغامر: هذا صعب
 
 
الثعبان: بل سهل، تملق كأبناء جنسك عندما يصفقون لزعيم رشح نفسه لاستلام منصب. (وكر الأفاعي: 21- 22).
يجد الخطاب بين المغامر والثعبان طريقه إلى تعرية الوضع السياسي وما ينطوي عليه من ألاعيب قذرة شتان ما بينها وبين ما يرفعه السياسيون من شعارات كاذبة وفارغة مفرغة من مضامينها حين يعدون شعوبهم بالرقي والرخاء والعيش الكريم، فالأمر لا يعدو كونه حربا صامتة حول مواقع السلطة والقرار، والاستفراد بخيرات الأرض التي يهيمنون عليها، وتتحول مجموع ممارسات السياسة إلى تهريج، إلى سيرك كبير يتألق فيه من يجيد الشطحات وينمق الشعارات:
 
المهرج الأكبر: أنا زعيم السيرك، والمهرج الأكبر، جئت أطالب بألمع نجوم السيرك عندنا الذي أسرتموه واستحوذتم عليه. (نفسه: ص 34).
 
يتلامح في نهاية النص تواطؤ قوى الشر على تقاسم مناطق النفوذ بعد أن عجز كل منهما على الانتصار على الطرف الآخر والاستئثار بالسلطة:
(المهرج الأكبر يتناول رقعة شطرنج ويضعها على الأرض في الوسط)
كبير الثعابين: ما هذا؟
المهرج الأكبر: ثعابينك جنود على هذه الرقعة، أنت تحركهم وأنا...
المهرج الأكبر: نعم، أنا أحرك الرقعة كلها، وهذا (يشير إلى الرجل المقنَّع) صانع الرقعة ومبتكرها.
كبير الثعابين: والسيرك؟
المهرج الأكبر: (بحماس) نحن مبتكروه وأصحابه... (نفسه: 38- 39).
في مسرحية "الدفين"، يكشف الصراع بين الشخصيات تجذير الطمع في النفس الآدمية، واستساغتها كل سلوكات التحايل والغدر أمام المال. فخليل، مكتشف الموقع الذي يسعى إلى استغلال بؤس عمر وضيق ذات يده لاستخراج ما اعتقده كنزا دفينا في مكان خلاء خارج المدينة، ما لبث أن وقع في مساومات مع سليم صاحب جهاز الكشف، ونادر شريكه. ومهما حاول تضليلهما بموعد لقاء ليلي للحفر اتقاء لعيون السابلة، إلا أنهما يحضران إلى المكان نهارا عندما حدسا غدره، فيكتفونه ويشرعون في الحفر وهو يستجديهم لإطلاق سراحه. 
لم يتوقف التنازع عند هذا الحد، بل اتسع ليضم ناجي خطيب رندة الذي اكتشف قصة استخراج الدفين، فحاول التخلص من خطيبته بدعوتها إلى مغادرة المكان، ثم يفرض نفسه طرفا في العملية، ويطالب بحقه فيما سيستخرجونه من الأرض؛ لكن الأمر ينتهي بهم إلى خيبة مرة:
خليل: (يصرخ) لماذا سكتم؟ ماذا وجدتم أيها اللصوص؟
(نادر ينهض ويركل بوري الصوبة نحو خليل)
نادر: (يصرخ) هذا هو الدفين
(فجأة  تدخل رندة معها ضابط وأربعة أفراد من الشرطة)
رندة: ها هم المحتالون... (تشير إلى ناجي) هذا الرأس المدبر.
(الشرطة يحاصرونهم، خليل يضحك بشماتة، ينظرون إليه) (نفسه: 78- 79).
إنها نهاية نماذج آدمية تعاني هشاشة أخلاقية مرعبة، فلا تكاد تصمد أمام فتنة المال حتى ولو كان مجرد وَهْمٍ. ولا تعرف للصدق طريقا داخل علاقات صحبة يُفترض فيها الإخلاص والإيثار والتناصح. "الدفين" لم تكشف كنزا من معادن نفيسة أو أحجار كريمة، بل عرَّت وضاعة نفس الآدمي، وجشعه غير المسوَّغ. إن المسرحية إنذار بتلاشي مقومات التساكن الإنساني، وتقهقر القيم والمبادئ أمام سلطة الماديات في زمن يسبق فيه سؤال: "ماذا تملك؟"، سؤال: "ما هي أخلاقك؟".
على مستوى آخر، تقدم مسرحية "خيبة" صورة مجتمع يغرق في بؤسه الفكري والمادي، مجتمع ما زال أفراده يترددون على المشعوذين: فشخصية "آزاد" تمثل حلا سحريا لمشاكل الكنَّات مع الحموات (نموذج تفاحة وعنبرة)، وأملا لـلشاب "رداد" العاطل الحالم بوظيفة يبدو أنها لن تأتي أبدا:
رداد: سُدَّت أمامي أبواب الرزق
آزاد: هذا حديث قليل الهمة، خائر العزيمة، أين إرادتك؟ 
رداد: وبماذا تنفع الإرادة وأنا مكبَّل اليدين؟
آزاد: يداك طليقتان، لكنك تضع حولهما قيودا من الأوهام. (نفسه: 93).
تتدخل شخصية "ثائر" كمعيق يشوش على أفعال المشعوذ الذي يبيع مريديه كلاما لتفريج كرباتهم، ويقف في وجهه ليوقظهم من تخلفهم حتى يلتحقوا بغيرهم من الأمم اليقظة المتقدمة. فهل سيفلح في خلخلة هذه الأوضاع لا سيما أن السلطة السياسية تقف خلف تبليد الشعب، وإفقار وعيه بالمعتقدات الباطلة، ورهن مصير خلاصه من الفقر والجهل والظلم بالغيبيات.
الوالي: هو يفعل هذا برضانا وتوجيهاتنا حتى تهدأ الأمور، ويستتب الأمن. (نفسه: 104)
غريب: وأنا أفعل ذات الشيء في بلادي، أستقبل الناس وأهدئهم بوعود، (ينفخ على ظهر يده) وعود... كلانا بائع كلام. (نفسه).
في هذا المشهد، يجد "ثائر" نفسه وحيدا وجها لوجه مع بائعي الكلام: الوالي والمشعوذ والديبلوماسي "غريب" الذي نشر شعارات كبيرة بين الناس حتى أوهمهم أنه الخلاص المنتظر، لكنه في الأخير يعترف لهم بأن بلاده أيضا تعاني المديونية ونقص الماء ومشاكل لا حد لها ولا حصر؛ إلا أن فتيل الثورة الذي أشعله بين شرائح البسطاء سيتلتهب ويتوهج ويتقدم بخطى واثقة نحو الوالي:
صوت: ليس الغريب عدونا أيها الناس، قبل قليل كنتم تطلبون نصحه والآن انقلبتم ضده، (يصرخ) الفساد عدونا.
أصوات: الفساد عدونا... الفساد عدونا...
آزاد: الصبر، الوالي سيعالج الأمر
أصوات: إلى الوالي... إلى الوالي... (يغادرون وهم يهتفون. فوضى عامة) (نفسه: 123- 124)
في "السراب"، المسرحية الرابعة والأخيرة من "وكر الأفاعي"، يبني حوار الشخصيتين الرجل والمرأة دراما ثنائية تنفذ عميقا في زيف العلاقة الزوجية أنى تنتفي طمأنينة العيش مع من يُفترض نصفا ثانيا للذات الحائرة في تمزقها، وفي استعسار التناغم المطلق بين الشريكين حين تتبدل الأحوال، وتختفي بعض المعايير التي اختار بها كل منهما الآخر في البداية. 
إن الإحساس بالقلق مركب يمد هواجسه في كل اتجاه، فالذات لا تأمن الحياة المتقلبة، لكنها لا تأمن أكثر تنكر العشير الزوجي لسبب طارئ قد يكون مرضا أو نكسة أو نائبة من نوائب الزمن التي لا يسلم منها المرء.
يتنامي حوار الرجل مع المرأة المحروقة الوجه بتشنج واضح، هو الباحث عن زوجته التي ربما ضاعت بسبب الحرب... وهي الباحثة عن زوجها. لكن كلاهما محترز من أسئلة الآخر ونواياه:
الرجل: فقط أردت أن أعرف الحقيقة التي تكتمينها (بشرود) والتي أراها، وأرفض تصديقها، لأن الحقيقة أحيانا تبدو كالسراب، وعندما نكتشف كنهها يسكننا السراب ونضيع. (نفسه: 138).
هو ذا الإحساس المرعب الذي يستبد بكيانيهما معا، فلا يحسان سوى الضياع وفقدان الاتجاه في رحلة بحث لا بوصلة فيها ولا تشوير. كيف للمرأة المحروقة الوجه أن تطرد شعور الرجل بالاشمئزاز من منظرها، وكيف يحاول هو أن يستسيغ رؤيتها في ضوء الشكوك التي تراوده من أن تكون زوجته. إنها مراوغة مقيتة استدعت كل ما يمكن أن يخلق جوا من الألفة والقبول بينهما. لكن حصول هذا التضام بينهما في النهاية يعود بالرجل مجددا إلى نقطة البداية: الاشمئزاز والقرف من وجه المرأة:
الرجل: ولكنك امرأة ولست خفاشا، أنت امرأة أشعلْتِني فتيقظت أحاسيسي التي كانت متبلدة.
المرأة: لقد أنعشت روحي.
الرجل: بل إني سأوقظ أنوثتك كما كنت أفعل فيما مضى.
(يتعانقان)
المرأة: دعني أغفو على صدرك.
(صمت تام، المرأة والرجل يغفوان متعانقين، ثم إنارة حيث تتسلل خيوط الشمس، يستيقظ الرجل وهو محتضن زوجته التي لا تزال نائمة، ينهض وينظر إليها بذهول، ثم يصرخ)
الرجل: لا ااااا... (نفسه: 149)
فلم صرخ الرجل بعد أن استكان إلى أنوثة المرأة/زوجته متجاوزا قبح وجهها المحروق؟ وكيف ستتطور العلاقة بينهما على إثر هذه الصرخة المرعبة؟
ختاما...
تلتقط الكاتبة المسرحية ميسون سليمان حنا مشاهد مؤلمة ومخزية من المعيش اليومي الآدمي الذي لم يَرْقَ بعد إلى صفة الإنساني، عالم من الصراع والصدام على مآرب ضيقة لا تختلف عما يحكم عالم الغاب. ومهما اختلفت دواعي هذه الشراسة الآدمية، فإن فساد الحكم، وانتشار الظلم هو المحرك الرئيس لهذا الخلل المستدام في مجتمعات فقدت أخلاقياتها، وصار كل أمر فيها ينذر بنهاية العالم وموت الإنسان.
تفتح هذه المجموعة المسرحية مساحات رحبة للقراءة والتأويل، كما تقترح نصوصها مادة كثيفة للمعالجة الدراماتورجية التي قد تصوغ مخططات منجز فرجوي قابل للإخراج، وذلك من منظورات سديدة تستوفي الأبعاد الكامنة بين ثنايا كتابة واعية ورافضة، يطبعها التكثيف والاختزال.
 
مراجع المقالة:
1. د. عجينة (محمد)- موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها- الجزء 1- دار الفارابي- بيروت- لبنان- الطبعة الأولى 1994.
2. المعجم العربي الأساسي- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلومALESCO - توزيع لاروس- 1989.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد