الحاوي

mainThumb

29-10-2022 10:41 PM

كنت في ذلك الزمان أؤمن بكلّ ما أرى بفعل دروس المنطق التي كانوا يحشون بها أدمغتنا ، وحين تقدّم بي العمر أيقنت جازما بأنني لم أكن على صواب ، وإن صاحبي الذي كان يردّد دائما صدّق نصف ما ترى لم يكن مغاليا ..
حين حضر الحاوي إلى قريتنا هو وابنه ذو العشرة أعوام تحلّق حولهما جميع من بالقرية وبدون مقدمات قال : في هذا المنزل ثعبان أخضر وأشار إلى منزلنا المتواضع أحسست بالهلع ، حاولت أن أقول له بأن هذا مستحيل ولكن الكلمات تجمدت على لساني وأبت أن تنطلق .. أمر ابنه : أدخل وهات الثعبان .. كانت عيون أهل القرية الآن تتطلّع إلى باب منزلنا كما لو كانت تنتظر حدثا جللا لم يسبق وأن توقّعوا حدوثه في يوم من الأيام وما هي إلاّ دقائق قليلة حتى ظهر ابن الحاوي وبيده ثعبان طويل أخضر..كانت رؤيته كافية لدبّ الرعب في صدور أهل القرية فهربوا وتفرقوا ولولا صراخ الحاوي عليهم لأمعنوا في الهرب ولما وقفوا حيث هم قال لابنه بعصبية : ضعه على الأرض فوضعه الإبن وانساب الثعبان واتجه صوب أهل القرية وحين همّت القرية بمعاودة الفرار صاح بهم الحاوي أن يقفوا فتوقفوا والصفرة تعلو وجوههم ,, أشار إليّ أن أقترب فاقتربت منه كما لو كنت منوما مغناطيسيا قال لي : إفتح فمك ففتحت فمي .. قرأ تعويذة أو ما شابه ثم تفل في فمي وصاح بأعلى صوته : قل قف يا مبروك فصرخت بأعلى صوتي المتهدج قف يا مبروك قف يا مبروك ويا لغرابة ما حدث لقد توقف الثعبان عن الحركة .. أخذ سكان القرية الآن يقتربون وبين دهشتهم وحيرتهم انقض الحاوي على الثعبان فأمسك برأسه وقال بصوت عال : الحمد لله لقد نجت القرية من شرّه وقد نذرت نفسي أن أجوب القرى أنا وابني هذا باحثا عن الثعابين السامة لأخلص الناس من شرّها وتعلمون بالطبع أن التنقل ليس يسيرا خاصة من وإلى القرى النائية لذا أهيب بكم أن تتبرّعوا بما تجود به أنفسكم لنستطيع أن نكمل المهمة الإنسانية وقد تركت فيكم هذا الصبي ( يعني أنا ) نائبا لي وقد قرأت عليه وباستطاعته إيقاف أيّ أفعى كانت وما هي إلاّ لحظات حتى دبت النخوة في أهل القرية فتبرعوا للحاوي وابنه بجلّ ما لديهم من أموال وحليّ وأطعمة ..
مرّت على تلك الحادثة شهور وشهور هبطت بعدها إلى العاصمة حيث حصلت على الثانوية العامة والتحقت بعدها بكلّية الطب وأمضيت فيها ما أمضيت من سنين حتى إذا حزت على الشهادة تعاقدت مع دولة عربية للعمل فيها وكان نصيبي أن أعيّن في منطقة نائية لا يصل إليها المرء إلاّ على ظهور البغال والحمير وهكذا مرت عليّ أيام لا أقسى منها ولا أمرّ ليلها كنهارها وبرغم حلكتها كنت في قرارة نفسي راضيا عن الدور الذي أؤديه لأن عملي إنسانيّ بالدرجة الأولى وزاد في تلطيف الجوّ النفسي الذي كنت أعيشه وجود مدرسة ابتدائية ملا صقة إلى مكان عملي فكان منظر المدرسين والطلاب يوحي بأن هناك حركة ما تجعل المرء يحسّ بأنه لا تزال هناك حياة ..
وذات صباح كسر الجمود والروتين اللذين يخيّمان على القرية صراخ الطلبة فهببت وكلّي حماس إلى حيث كانوا وعندما تبينت كلامهم استغرقت في الضحك وكانوا قد التفّوا حولي
- أصله يا دكتور
حين انحسرت موجة الضحك قلت لهم : لاأحد يتحرك من مكانه فقط أشيروا بأيديكم أين هي ؟ أشاروا إلى ناحيتها .. كانت أصلة ضخمة لو تمكّنت من طفل لابتلعته ولكنني في تلك اللحظة والحق يقال لم أخف ولم أرتعب ولم أرتجف سرت نحوها بتؤدة وما أن اقتربت منها حتى صحت بأعلى صوتي : قفي يا مبروكه قفي يا مبروكه كان الطلاب الآن يقفون خلفي تماما فكرت بسرعة فرضا توقفت الأصلة فهل لديّ الجرأة للإمساك بها ؟ وهل يليق بأن أتركها واقفة حيث هي ؟ هذا ما كان يؤرقني في تلك اللحظة المصيرية ولما لم تتوقف صحت بها مرّة أخرى بصوت مرتجف : قفي يا مبروكة قفي يا مبروكة ولحسن حظي وحظّ الصغارلم تصغ الأصلة إليّ ولا أدارت رأسها الضخم نحوي بل ظلّت تزحف باتجاه الوادي ..كان العرق يتصبب من جسدي كلّه وهي ما تزال تبتعد .. حين تجرّأت ونظرت إلى عيون الأطفال كانوا غير مصدّقين بل ومشدوهين تماما قال أحدهم : أنت شجاع يا دكتور علّق آخر : حين أمرتها أن تقفّي أقفت .. أحسست بالحرج لقد ظنّ الأطفال بأنني كنت آمرها بالإبتعاد ..
في الساعة التي تلت وفد عليّ أهل القرية بقضّهم وقضيضهم مصافحين وشاكرين لي أريحيتي وشجاعتي .. حين خلوت إلى نفسي شعرت بالذلّة والإنكسار إذ كان على الأصلة أن تتوقف كما توقّف ذلك الثعبان الأخضر حين صرخت به وأحسست بالخزي أكثر ذلك لأنني ومنذ صباي وأنا أعتقد جازما بأنني حاو أستطيع إيقاف أيّ ثعبان ألم يقرأ عليّ ذلك الشيخ ؟ ألم يبصق في فمي ؟ ألم يعمّدني حاويا للثعابين منذ تلك الواقعة ؟ لقد أحسست الآن بقرف بصقته في فمي وبأن ما رأيته حين ذاك كان وهما وسرابا وتخيّلا ليس أكثر وآمنت أكثر بأنّ الثعبان الأخضر أو ما خيّل لنا حينها بأنه ثعبان أخضر لم يكن في بيتنا ولكنه كان في جلباب ابن الحاوي الذي لم يفعل أكثر من أنه أخرجه من جلبابه وخرج به علينا ..
ألم أقل لكم حتى الذي ترونه بأم أعينكم لا تصدقوه فكيف إذا جاء الأمر من مشعوذ؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد