مساعي التنبؤ تقنيا بالزلازل

mainThumb

02-10-2023 05:07 PM

يتكرر السؤال بعد كل زلزال متوسط القوة أو مدمر من طرف المواطنين ما إذا كانت المنطقة التي ضربها الزلزال ستتعرض من جديد لزلازل مدمرة أم لا. في هذه الأجواء تكثر الإفتاءات من جهات مختلفة في غالبيتها لا تمت إلى موضوع الزلازل كعلم بصلة، بينما يغفل قسم من ذوي الإختصاص عن إدراك السلوك الحقيقي للكتلة الأرضية التي تعرضت للزلزال بفعل تراكم ضغوط كبيرة عليها على مدى زمني طويل يصل أحيانا إلى مئات السنين ولا نشعر بها وهي تتراكم أسفل أقدامنا. عموما كل زلزال كبير يتبعه على مدى زمني من تاريخ حدوثة زلازل ارتدادية من خفيفة إلى متوسطة القوة لكنها قوتها في المجمل تكون أقل من قوة الزلزال الرئيسي. هذه الإرتداديات تقل قوتها أكثر فأكثر وتتباعد في ما بينها مع الوقت إلى الحد اللذي تستقر فيه الأرض وتعود إلى الحالة التي كانت سائدة عليها قبل الزلزال الرئيسي بزوال الضغوط التي أجهدت الكتلة الأرضية.
في هاذا السياق حاول المهندسون الجيوفيزيائيون التطبيقيون المختصون في هذه الظاهرة الطبيعية خاصة في الدول القوية اقتصاديا كالولايات المتحدة الأمريكية، معرفة مستوى الضغوط الباطنية المتراكمة على الكتلة الأرضية في دراسة خاصة مكلفة ماديا وذلك على طول أحد الصدوع الأرضية المحتمل حدوث زلازل مدمرة فيها في مسعى للتنبؤ بالزلازل، تخللها دراسات على المادة الأرضية في إطار ضغط/إجهاد (StressStrain) وصولا إلى نقطة متى سيحصل كسر المادة الأرضية التي هي عبارة عن لحظة حدوث الزلزال معتمدين في ذلك على قانون هوك الفيزيائي. هذه التجارب المكلفة ماديا على أرض الواقع لم تسفر عن أية نتائج تذكر وعليه تم التخلي عنها.
مع ظهور تقنية تحديد الموقع (GPS) عبر مجموعة من الأقمار الصناعية أطلقت لهذا الغرض حول الأرض ثابتة في مواقع كل منها فضائيا وجغرافيا بالنسبة للأرض بحكم أن سرعة دوران كل منها حول الأرض تعادل سرعة دوران الأرض حول نفسها مع تذبذب لا يتجاوز بضعة أمتار في مواقع كل من هذه الأقمار في الفضاء، أمكن مراقبة أي تغيير في الإحداثيات الجغرافية لأي نقطة على الأرض. على ضوء ذلك صار بالإمكان مراقبة ورصد معدل التحرك للصفائح الأرضية بشكل عام وكذلك معدل التحرك على جوانب الصدوع الأرضية التي شهدت زلازل تاريخيا في كل مكان من خلال رقابة تمتد لعشرات السنين. إذا كانت حركة الإنزلاق على طول أحد الصدوع مستمرة على طوله فلا خوف من حدوث زلازل عليه، لكن الخطورة تكمن في حالة عدم وجود إنزلاق أرضي على طول كامل جانبي الصدع الأرضي أو جزء منه. في هذه الحالة يمكن ترشيح الجزء الساكن بلا حركة لزلزال في المستقبل خلال زمن معين آخذين بعين الإعتبار حجم الضغط المتراكم على الكتلة الأرضية المتسبب باجهادها وإيصالها إلى نقطة الكسر وذلك إستنادا إلى معدل الحركة قبل توقف هاذا الجزء عن الحركة.
مع أن تقنية رقابة التغير في الإحداثيات الجغرافية بواسطة الأقمار الصناعية فعلا جيدة ومؤملة إلا أنها في حالات معينة تحتاج لوقت طويل يمتد لعقود وربما أكثر من عقود وتخفق أحيانا في تحديد مكان حدوث الزلازل لأسباب تتعلق بشروط وخصائص الصدع الأرضي على طوله لمسافات بعيدة، ولأسباب تتعلق بهجرة الضغوط المتراكمة في باطن الأرض لمسافات بعيدة تصل إلى عدة مئات من الكيلومترات وليس آلاف أحيانا وبالتالي إنتقال هذه الضغوط لتضغط في مكان آخر بعيد بصورة مفاجئة.
العواصف الزلزالية هي عبارة عن نشاط زلزالي خفيف لكن نسبيا كثيف في مناطق معينة يستمر لمدة من الزمن قد تمتد لعدة أيام ولا يمكن الإستناد عليه كمقدمة لزلازل متوسطة القوة أو كبيرة كونه في غالب الأحيان يخمد بعد فترة ويتوقف عن الحدوث. لوحظ أنه قبل حدوث الزلزال بفترة قصيرة قد تمتد من يومين إلى أسبوع زيادة مفاجئة في نسبة تواجد غاز الرادون المشع في المياه الجوفية ونجحت الصين في عام 1974 في التنبؤ بزلزال حدث فعلا هناك وكان بقوة 7.4. هاذا التنبؤ وثقته الصين في مذكرة سلمتها إلى السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك طالبة من الأمين العام للأمم المتحدة عدم فتح المذكرة إلا بعد أن تطلب منه الصين ذلك وهاذا ما حصل. بعد حدوث الزلزال طلبت الصين من السكرتير العام للأمم المتحدة فتح مظروف المذكرة والإطلاع على ما ورد فيها. تبين بما لا يدع مجالا للشك أن الصين نجحت بالفعل لأول مرة في التاريخ بالتنبؤ بالزلازل إستنادا إلى رصد التغير المفاجئ في نسبة تواجد غاز الرادون المشع في المياه الجوفية في منطقة حدوث الزلزال. كررت الصين هذه المحاولة في العام التالي إلا أنها أخفقت في ذلك وذلك لأن عودة نسبة تواجد غاز الرادون المشع إلى الوضع الطبيعي يكون لأسباب تتعلق بهجرة الضغوط التكتونية إلى أماكن بعيدة قد تصل إلى عدة مئات من الكيلومترات وليس إلى آلاف الكيلومترات كما يدعي البعض.
من المعروق أن أية مادة عند تعرضها للإجهاد بسبب من الضغط الواقع عليها ترتفع درجة حرارتها وعليه يترتب على ذلك تغيير في كامل الخصائص الفيزيائية لهذه المادة. إذا قدر لنا رصد هاذا التغير المفاجئ في الخصائص الفيزيائية للأرض في أماكن تغيرها فمن الممكن التنبؤ بالزلازل. هاذا الأمر تقنيا شبه مستحيل إذ كيف لنا أن نمسح كامل سطح الأرض جيوفيزيائيا كل 24 ساعة. في جلسة خاصة لي مع صديقي أستاذ الجيوفيزياء السابق في جامعة بلغراد عام 1983 الدكتور بروسن (Brosen) رحمه الله حيث كنا نتناقش حول إضطراب الحيوانات الراجلة على أربع أخبرني أنه في مناطق تواجد المواد الهيدروكربونية من نفط وغاز وفحم حجري يحدث أنه عند إرتفاع درجة حرارة الكتلة الأرضية المجهدة يحصل إنبعاث لغاز ثاني أوكسيد الكربون عنها عبر التشققات في سطح الأرض إلى السطح، كون ثاني أوكسيك الكربون أثقل من الهواء الجوي فأنه يتواجد على سطح الأرض على ارتفاع لا يتعدى المتر الواحد وكون جميع الحيوانات راجلة على أربع بينما الإنسان يكون تواجده على إرتفاع أكثر من متر ونصف المتر فهو لا يشعر بهاذا الغاز بينما تشعر به باقي الحيوانات. هاذا الإعتقاد عن اضطراب الحيوانات قبل حدوث الزلزال بوقت قصير تم نفيه لاحقا من خلال مجموعة من الأبحاث العلمية الموثقة.
من يخرج علينا في أعقاب كل زلزال مدمر وبين الفينة والأخرى يحدد فيها زمن قصير جدا لحدوث زلازل مدمرة هنا وهناك بسبب اقتران مجموعة من الكواكب أو أنشطة شمسية أو مغناطيسية كما يقولون، فهاذا يجافي الواقع ومجرد كلام انشائي غير سليم لا يستند إلى أية أبحاث منشورة وموثقة عالميا، ببساطة لأن أسباب الزلازل تكمن في الأرض نفسها وليس بالفضاء الخارجي أو الأنشطة الشمسية أو تذبذب الأقطاب المغناطيسية مع الوقت.
بناء على ما سبق ينبغي توخي الحذر في إعطاء الأحكام والتعايش مع هذه الظاهرة الطبيعية من خلال الإستعداد الأمثل وسرعة الإستجابة لها في سياق تخفيف مخاطرها.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد