«الموتُ شِعرًا»: أحبُّ الشعراء ولستُ منهم

mainThumb

04-11-2023 06:59 PM


كلّما قست الأوضاع، أهرع لقراءة الشعر؛ في مُحاولة ساذجة منّي لأطمئن أنّ أشخاصًا آخرين، مرّوا من هنا ورأوا ما رأيت، وأحسّوا بما أحسّ، غير أنهم كَتبوا وأنا أفتّش عمَّن يترجمُ المشاهد عوضًا عنّي.
هذا الأسبوع، عرّفتُ تلاميذي على الألوان الأساسية، ولكي أختبر حسّهم الفني سألتهم بماذا يذكرهم كل لون، فقالوا: الأحمر مثل الفراولة، والأصفر مثل الشمس، الأخضر مثل ساحة الألعاب، والأبيض مثل الثلج والأسود مثل الليل.
أدركتُ لحظتها أنّي قد أكون واقفةً أمام شُعراء مُحتملين. لكن، عن أي شِعرٍ سيكتبون عندما يصيرون بعُمر الإمساك بالقلم وغرس الكلمات على الورق؟ أيّ شِعرٍ سيحتاجه عالمهم حينها، أو بالأحرى، هل سيظل اللون الأسود يذكرهم بالليل كما يذكرهم الأحمر بطعم الفراولة الحلو على لسانهم في موسم الربيع؟، وماذا لو سألتُ اليوم أطفال غزة بما يذكرهم اللون الأحمر؟ سيجيبون بسرعة أنّه يذكرهم بالدماء التي تجري على أرضهم منذ خمسة وسبعين عامًا، كما سيذكرهم الأبيضُ بالأكفان التي يلفّون بها أمّهاتهم وزملاءهم في المدرسة. و قد يذكرهم الأسود بالليل أيضًا، لكنّ ليلهم وليلُ تلاميذي لا يتشابهان في شيء. يقول مروان مَخّول (شاعر فلسطيني): «لكي لا أكتب شعرًا سياسيًا، عليّ أن أسمع تغريد العصافير، و لكي أتمكن من سماعِ تغريدِ العصافير على الطائرات الحربيّة أن تتوقف».
متى يصير الشعراءُ شعراءَ إذن؟ وهل يتساوى شاعران أحدهما يستيقظ على زقزقة العصافير والآخرُ بالكاد نام ليلته أصلًا؟!. هناكُ جملة تكاد تكون مُبتذلة لكنها لا تخلو من الحقيقة، تقولُ «إنّ الإبداع يولد من رحم المعاناة». هل يختار الشعراء أن يكونوا شُعراء؟ أم أنه شيءٌ يُصابون به كما أصيبوا بقدَرهم الذي كُتِبَ عليهم: أنْ يكبروا وسط الخَراب.
إذا كتبَ مَثلاً تلميذٌ في صفّي الجملة التالية: "كان يا مكان في أرضٍ بعيدة، كان الأطفال يوضعون في عربات المُثلجات، التي كانت ذات ماضٍ قريب، تفرحهم رؤيتها.. قبل أن تصيرَ مُستودَعًا لأجسادهم الصغيرة في انتظار دورهم في الدفن"، ستبدو كأنها مُقتبسة من حكاية رُعبٍ كتبها خيالٌ فذ. أمّا إذا كتبها طفلٌ غزِّيْ فهو لا يتخيّل أي شيء بل هو يكتُب حرفيًا ما رآه بأمّ عينه.
إذا كتب شاعرٌ "آمن"، استيقظ صباحًا ليشرب قهوته على مهل، ودوّن على دفتره سطرًا: "يكتبون أسماءهم على أيديهم حتى لا تضيعَ منهم ساعة الموت"، قد تبدو استعارةً ظريفة، عن نحتِ الاسم على الأجساد كالوشم أو عن الخلود وعلاقة الروح بالجسد  ما إلى ذلك، لكن، إذا فكّرَ شاعرٌ فلسطينيّ في جملةٍ كهذه و أدرجها في قصيدةٍ لم يستطع حتى تدوينها جرّاء القصف المُهول، فإنه لا يستعير أيّ صورة شعرية، ولا مساحة هُنا لأيّ مجاز بل هو يكتب واقعه المُعاش. وليسَ بعيدًا أن يكون كلّ شهيدٍ ارتقى، شاعرًا مات قبل أن يُدوّن قصائده.
"أحبُّ الشعراء، ولستُ منهم".. لهذا يقفز لذهني أحمد بخيت وهو يقول : «يبقى معي منكَ الحياة قصيدة، والموتُ شعرًا والخلود مؤذنًا».
"أحبّ الشعراءَ ولستُ منهم"..، لهذا سأفرح لو أنّ أحدًا من تلاميذتي كبُر و صار شاعرًا، بعد أن أكون قد ساعدتُهُ ولو قليلًا على أنْ يرى صُورًا عديدةً للألوان. وأن يكون قد نجا من قُصرِ النظر و ضِيق الرؤية، و تمكن من فتح عينيه على تدرجات أخرى للأسود، مثلَ: ليلِ المنسيين الداجِن، و قلوب الأعداء الحالكة، وغضب المُقاومين الفاحم. أريده أن يصير شاعرًا يكتُب القصائد التي نجت من قصف الصواريخ ولم ينجُ قائلُها، أن يتبنى استعارات الآخرين، وأبياتهم ليكون صوتهم و حِبرهم، لا أريد له أن يُصاب بداء الحِياد، ولا أن يكون أجبن من اتخاد موقفٍ، ولا أن يسخّر شِعره للتغزّل بالمرأة أو وصفِ شقائق النعمان كأي مُتخاذلٍ يعتبرُ نفسه مُثقفًا وهو لا يشتبك مع قضايا بيئته في شيء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد