الصمت كوداع أخير .. و"إذا ضاق الكلام .. أوسع"

mainThumb

08-12-2023 09:45 PM


دخل مُقدّم الحفل ببدلته الأنيقة، توسّط المنصّة وفي يده مكبّر الصوت، و بعد التحية و الترحيب قال: فليقف الجميع دقيقة صمتٍ حدادًا على أرواح الشّهداء. وكمن يسهو في الصلاة، سهوتُ أفكّر في ماذا يدور في أذهان جميع الواقفين أثناء دقيقة الصمت هذه.
علميًّا، "الظلام هو غياب النّور". هل نستطيع أن نُتبث أنّ الصمت أيضًا ما هو إلا غيابٌ للصوت، أو الكلام في هذه الحالة؟ واردٌ جدّا. فحين ينتهي الكلامُ ولا يبقى ما يُقال نلجأ للصمت. يقول المثل "الصمتُ علامةُ رضى" أكره هذه المقولة؛ لأنها تصحّ في بعض المواقف، فما صمتُ الحكّام إلا رضى مُبطّن عما يحدثُ (يقول دبلوماسي أمريكي سابق يدعى دينيس روس أنّ القضاء على "حماس" رغبة القادة العرب أيضًا وليست إسرائيل والولايات المتحدة فقط). لكنّها، وأعني المقولة، لا تصحُّ في حالة كان الصمت حيلة العاجزين والمغلوبين.
في الموسيقى، الصمتُ نوتة ولها قياسُها، وعلاماتها أيضًا (الزّفرة والبرهة واللحظة ونصف اللحظة وربع اللحظة..) وللصمتِ وقعهُ في المقطوعات الموسيقية، يتم تحديده في فراغات زمنية ليست عبثية بل محسوبة بدقّة. وتكون نتيجته لحنًا ونغما يسقُط على الروح فترتفع. لكنَّ الصمتَ أمام الظلم والقهر وغياب العدل، يسقط على الروح كالجمر، ولا يُنغّم بل يُخزي و يُخجل، و "يجعل رؤوسنا في التراب". يُقال إنَّ الصمتَ حكمة، أينَ الحكمة إذن في صمتِنا أمام كل هذا القتل؟

انعكست كل المفردات و اتّسمت المرحلة الحالية بالتناقض، ربما علينا اختراع لغة أخرى ومُصطلحاتٍ جديدة نُسمي بها ما يحدث. نعطي لصمتِ المُتخاذلين وصفًا جديدًا لصمتِهم الخائن. و"بالمرة" نبحث عن مُرادفٍ آخر للفرح والاحتفال بعد أن عجزنا عن تسمية ما شَعرت به عائلات الأسرى المُحررين بعد صفقة التبادل. فكيف يكون ما أحسّوا به " فرحًا" و قد كان ثمنُ حريّتهم استشهاد عشرات الآلاف من الأبرياء؟
لقد اختلطَ كلّ شيء، وعلينا فعلا إيجادُ كلماتٍ جديدة للتدوال، فمَثلًا على تطبيقات التواصل الاجتماعي التابعة لشركة "ميتا" والتي تُمارسُ قمعًا وحجبًا لكل المحتوى الذي يُساند القضية الفلسطينية، وتعاقب الحسابات بحجبها. و لكي تظل هذه الحسابات مُتواجدةً لتنقل الصور والأخبار من ساحة الحرب، علينا نحن المُتفرجون أن نضغط زر "أعجبني" على كل منشورات جثث الشهداء وصور المباني المهدّمة وعلى مقاطع فيديو لشيخٍ يبكي أحفاده، وأمّ تودّع صغارها. لو أنّ العالم عادلٌ بما يكفي لغيّرت الشّركة زرّ "أعجبني" أو "like" بزرّ: "لاحول ولا قوة إلا بالله"، أو "حسبنا الله و نعم الوكيل".. أو فلتقتبس من درويش جملته ونضغط جميعا زرّ: "لا شيء يُعجبني" أو لنكتفِ بالصمت وفقط، الصمتُ الذي "إذا ضاقَ الكلام أوسع". ماذا يُقالُ أمام كلّ هذا الموت؟ وكم من دقيقة صمتٍ علينا أن نصمتها حدادًا على أرواح الشهداء وعلى ضمائرنا أيضا. فلو كان علينا أن نصمتُ لدقائق أمام هذا الظلم وقلّة الحيلة سيتوجب علينا أن نصمُت عُمرًا بأكمله.
على فايسبوك، تكتبُ إحدى الناجيات من القصف "هناك لحظةُ سكونٍ عند سماع صوت القصف، ننظر فيها لبعضنا البعض  للمرة الأخيرة ونصمت"
بين الصمت كنوطة موسيقية والصمت كوداعٍ أخير، تُرعبني الحياة و تُفقدني صوابي. هذه الحياة مُربكة، وهذا الصمت مخجل.. جدًا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد