في رِثاءُ والدِي الحبيبِ: عبدالله الرفاعي

mainThumb

05-05-2024 08:29 AM


ما خَطَرَ على بَالِي يَوماً أن يَثقُلَ قَلَمِي، وتَتَعطَّلَ حُرُوفِي وجُمَلي؛ فالقَلَمُ جَفَّ مِدادُه، واللسانُ مشدودٌ وِثاقُه، والقلبُ مَكسُورٌ وِدادُه، فكانت غصَّةُ الفِراقِ أقوى من ذَخيرةِ كلماتي وتَمالُكِ نفسي.
أُودِّعُك يا والدي الحبيب بزفراتِ المحزونين، وأَنَّاتِ المُتَوجِّعين، ودُعاءِ الصَّالحين أن يُسكِنَكَ المولى عزَّ وجلَّ الفردوس الأعلى من غير حسابٍ ولا عذاب.
فالآباءُ خالدونَ في قلوبنا، وإن رَحلت أجسادُهم، وفاضَت أرواحُهم إلى بارِئِها... لقد فاضت روحُ والدي الطَّاهرة فجرَ الأربعاءِ الموافقِ: 24-4-2024م، فجاء تاريخُ الوفاةِ منظوماً يُحَاكي نَظمَ حياته... فها هي حروف الرِّثاء كُتِبت بأَنينٍ من الشَّهقاتِ، ودموعٍ حَارقةٍ تُسكَبُ على العبارات؛ فقد كُنتَ يا والدي أَثِيراً إلى نفسي اهتزَّ القلبُ بِفقدِكَ، وصمتَتْ التَّعابيرُ بغيابِكَ الأبدّي إلى دار القرار.
استَحضَرْتُ قول الزَّهراءِ سيدةِ نساء العالمينَ، وهي تُودِّع أباها المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، والموتُ يغشاه: (وا كَرْبَ أبَاهُ) ولأول مرةٍ أستشعِرُ دقَّاتِ تلك العَبَراتِ وَوَقعِها، على الرغمِ من أنَّ أباها يُطَمئِنُها بقوله: (ليس على أبيكِ كَربٌ بعدَ اليوم)، لكنها الأبوةُ والبنوة أقوى من كل الصيحات، حتى إذا قُبِضت روحُه العَطِرة نَعَتْهُ غَالِيتُهُ: (يا أَبَتاهُ أجَابَ ربَّاً دَعَاهُ... يا أبتَاهْ مَنْ جنَّةُ الفِردوسِ مأواهْ... يا أبتاهْ إلى جبريلَ نَنْعَاهْ).
ما عدت أَلُومُكَ يا أميرَ الشعراء حينما نَظَمتَ في رثاء أبيكَ شعراً في قافية النون الساكنة قائلاً:
قال لي العُذَّال لِمَ لَمْ أرثِ أبي؟ ورثـــــــــــاءُ الأبِ دَيْــــنٌ أيُّ دَينْ
أنـــا من مــاتَ ومن مــاتَ أنــــا لَقِيَ المــــــــوتَ كـــــلانا مـــــرَّتَينْ
مـــــــــا أبــــــــي إلا أخٌ فـــــــــارقتــــُهُ وُدُّهُ الصِدقُ وَوُدُّ الناسِ مَينْ
يا أبي والمـــــوتُ كأسٌ مُـــــرَّةٌ لا تذوقُ النَّفـــــــسُ منها مَرَّتَينْ
ليتَ شِعري هَل لنا أن نَلتَقي مرَّةً أم ذا افتِــــــــــراق المَـــلَــوَينْ
وإِذا مــُتُّ وأُودِعـْـــــتُ الثَّــــــــرى أنلقــــــــــى حُفـــــرةً أو حُفـــــــرَتَين

كلماته...همساته... صوتُه العذبُ ما زال يرِّنُ في أُذُنَيَّ كلما تأخَّرتُ عن زيارته ولو لدقائق معدودة: "لماذا تأخرتِ أينَ أنتِ أينْ؟" وّبِوِدِّه أن لو لم أُفارِقهُ أَبداً، وكلما استأذنتُه للعودة إلى بيتي، كان ردُّهُ المعتادُ:"لا زال الوقت مُبكراً ... إلى أينْ إلى أينْ؟" وكأنَّه يريدُ أن يُشبِعَ ناظِرَيه مني مرات ومرات ... كنتُ أزورهُ وهو فوقَ الأرضِ، والآن أَزورُه وهو تحتها... شوقٌ يطولُ حَظُّه ويزداد حنينه..
يا أبتاه ما فاتتني إلا بقيةٌ من ترتيلاتك، وتَغَنِّيك بكتاب الله قوَّاماً من الليل في ثلثه الأخير، حتى كُنتَ تَختِمَهُ بتكبيرة الإحرام في صلاة الفجر جماعةً مع الإمام ما يقارب ستين عاماً، وهو ثلثا عمرك ونَيِّف، طيَّب المولى أنفاسَكَ ومسعاكَ وممشاكَ إلى مساجده، وجعلها نوراً في قبرك... ولا فاتتني يا أبتاه ترديداتك بأني جزءٌ من افتخاراتِكَ في الحياة، وأَعِدُكَ أن أبقى كما ظننتَ بي خيراً ما أمدَّ الله في عمري.
لطالما استقبلَ بيتُك الكِرامَ، وها هي تلاحقتني خَيالاتُكَ وحركاتُكَ في كل زاويةٍ ومكان، إلى أن أكرمني الله تعالى فجعلَ آخرَ زيارةٍ لك حالَ صحتكَ في بيتي، الذي شرَّفتَهُ وعطَّرتَهُ وأَنَرتَهُ، ومالحناكَ بما تُحب، ولسانُك الرَّطب يلهج بالدعاء لي ولزوجي، ففاجأتني بوصيتك عليَّ أحِبَّتكَ وأحبَّتي... لم أنتبه حينها أنك تودعني... لن أنساك دهراً ما حييت يا أبتي.
سريعةٌ هي لحظاتُ الوداعِ وإن طالت ... عميقةٌ في ذِكراها وصُوَرِها وخيالاتها... صادقةٌ في مشاعرها وآهاتها... مرَّت لحظاتُ المَرَضِ كالبرقِ، ولم أكن أعلمُ أنَّها الفِراقُ حتى التفَّتِ الساقُ بالساقِ، فالرِّباط عندك والموعد معك، فقد رابط أولادك ثمانيتهم(وأنا أصغرهم) إلا تاسِعَهم لغربة فاقت قُدرَتَه، فأتاكَ مُهروِلاً لِيَلحقَ أنفاسكَ الأخيرة، وجَمَعتَنَا -كما أنت دوماً- بغرفة واحدة في مستشفى الملكة علياء، ندعو لك وأنت تحتضر والألم يعتصرنا، تدور عيناك فينا تودِّعُنا ونودعك، تدعو لنا بالخير والرضوان، حتى صلَّيتَ آخر صلاِتكَ، ونَطقتَ بالشهادتين وأنت على فراشِ الموت، ومن ثمَّ خَرَجَت روحك النَّقِيَّة، ولم تعد تسمعنا أو ترانا فأنت إلى الآخرة أقرب، ولو طال الرباط عندك يا أبتاهُ مائةَ عامٍ ما فارقناك حتى يُوَارى رُفَاتُك تحت التراب.
حاولت أن أتَلَمَّسَ ما كُتب في رثاء الأب، فوجدتُ الشَّاعرَ "حسين العبدالله" يرثي أباه، يَعطِفُ حُرقةً على حُرقةٍ، بقوله:
لو أَمْطَرَتْ ذهَباً من بعدِ ما ذَهبا لا شيءَ يَعدِلُ في هذا الوُجودِ أَبَا
يا ليتني ما تَرَكْتُ الموتَ يسبِقُنِي لكنَّـــــــــــــــهُ قَـــــــدَرٌ غَـــــــــــــالبْتُهُ غَلَـــــبا
ما زالَ في جَبهَتي من عِطرِ قُبلَتِهِ ما زال يُطـــــعِمُني التُّفاحَ والعِنبـــــا
ما زِلتُ في حجره طِفلاً يُلاعِبُني تزدادُ بَســـمتُه لـــــــــي كلـــــــــــما تَعِبـــــا
لَمْ يَحْنِ ظَهرَ أبي ما كانَ يَحمِلُهُ لكـــــن لِيَحمِلَني من أَجـــلِيَ انحَــــدَبَا
كفّاهُ غَيمٌ وما غَيمٌ كَكَفِّ أبــــــــي لـــم أَطلُبِ الغيثَ إلا منهُما انســـكــــبا
يا لَيتنِـــــــي خَـــــــاتمٌ فـــــــــي خُنْصُرٍ وكلمــــا قَــــــدْ شِئتَ يا أَبتي قَلَّبْتَهُ انقَلَـــــبا
يا لَيتني الأرضُ تَمشي فوقـــها فَأرى مِن تَحتِ نَعلِكَ أنِّي أبلُغُ الشُّــهُبَا
مهمــــا كَتَبتُ بهِ شِعراً فإنَّ أبي في القَدْرِ فوقَ الذي في الشِّعرِ قد كُتِبا

شَحِيحَةٌ هي الكلماتُ حين أَطلُبُها؛ بَحَثْتُ عنها فلم أَجِدْها، بَحَثَتْ هِي عنِّي فوجَدَتنِي أنتَظِرُها، لكنَّها لم تروِ ظَمئِي لأَرتَشِفَها، ولا همسَ تَلَهُّفِي لأَحتَضِنَهَا....فمهما سطَّرتُ أو استعرتُ فالكلماتُ عاجزة... سلامُ الله عليك يا والدي مقدارَ ما أحببناكَ وأحببتَنا .... وسلامُ الله عليكَ مقدار ما رَضيتَ عنَّا وأرضَيتَنا... ومقدار ما ربَّيتنا وعلمتَنا وآنستَنا، وضحَّيت كثيراً من أجلِنا ... ولا أقول إلا ما يُرضِي رَبَّنا: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" تغمَّدك الله تعالى بواسع رَحمتهِ ومغفرَتهِ ورِضوانِه، وعزائي أن يجعل الله تعالى جِنَانَ الخُلدِ مثواك، ويَحشُرَكَ مع النبِّيينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً، ويَجمَعُنا بك ربٌّ عظيمٌ كريمٌ لن ينسانا من فضلهِ ورحمته...
كلماتٌ خطَّها قلمي، فإن كنتُ بها قد اقتربتُ من إيفاء حَقِّ الأبوة- وما ظننت- فبتوفيقٍ من الله تعالى، وإن كنتُ قد قصَّرتُ وَضَعُفْتُ، أو ابتَعَدَتْ بيَ هِمَّة الكلمةِ عما يليقُ – وهو ما أيقنت- فمني وأستغفرُ الله تعالى.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد