عرض كتاب الفلسفة السياسية

mainThumb

02-03-2025 12:37 AM

يقَدِّمُ هذا المَقال عرْضاً موجَزاً لكتاب "الفلسفة السياسية" للدكتور أحمد داوود أوغلو، ترجمة د. ابراهيم البيومي غانم، تقديم د. محمد عمارة الصّادِر ضمن سلسلة [هذا هو الاسلام (6)] عام 2006 عن مكتبة الشروق الدولية في (77) صفحة. اتّصفَ هذا الكتابُ رغم صغَرِ حجْمِه برصانةِ السبكِ و قوةِ المُحاجَجَة واللغة الفلسفية و عمقِ الأفكار و سِعتها. سعى الكتابُ على ايَصالِ فكرةٍ أساسيّة تتمثّلُ في انّ اختلاف الرؤى الفلسفية للعالم ينعكِسُ بالضرورة على النظريات السياسية الخاصّة بتنظيم الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية على مستوى نظام الدولة و النظام الدولي. و قدْ بيَّنَ الكتاب ذَلِكَ منْ خِلالِ تحْدِيدِ التّمايزَ في النظرة الاسلامية و النظرة الغربية للعالم في قسمِهِ الأول ثمّ تحلِّيْلِ أثر ذاك التمايزِ في النظريات السياسية في القِسمِ الأَخر.

المُقَدّمةُ: فرّقَ د. محمد عمارة في تقديمِهِ للكتاب بين لفظَيْن، هما: أوّلاً، لفظ "العالمية" الذي عدّه دالاً على تفاعلٍ حضاريٍّ طوعيٍّ يحافظُ على الخصوصيات. ثانياً، لفظ "العوالمة" الذي عدّه دالاً بشهادة الواقع على اجتياحٍ ثقافيٍّ اقتصاديٍّ عسكريٍّ من الطرف الأقوى في النظام الدولي على الطرف الأضعف؛ و يَحْملُ في طياتهِ معنى "التغريب" او "الأمركة". و هذا يستدعي ضرورةَ تحصين العقل المسلم -لا بالانغلاق و لا بالتقليد- انما بالوعي بخصائص الذات و الأخر و اتخاذ موقف نقدي. ثمّ لخَّصَ د. عمارة التمايزات في الرؤى الفلسفية الكليّة بين النظرة الاسلامية و النظرة الغربية للعالم كما ناقشها متنُ الكتاب.

تساؤلات أولية: بيَّنَ د. اوغلو هنا أنّ الفارقَ الرئيسَ بين النظْرَتين الاسلامية و الغربية للعالم يكْمُنُ في أنَّ "نظرية المعرفة الاسلامية محدَّدَة وجودياً" و لكن في الفكر الغربي "فانَّ نظرية المعرفة تحدِّدُ الوجودَ". تقومُ النظرةُ الاسلاميةُ على أساسين هما: "التوحيد و التنزيه" أي تسامي الخالق و هيمنته على النسبيات المخلوقة ما يؤدي الى: أولاً، منع تمثُّلِ المُطْلقِ (الله) في المخلوقات النسبية- الكائنات. ثانياً، هيكل هرمي وجودي تدريجي؛ يبدأ بالله ثمّ الانسان ثمّ الطبيعة. و يمنَحُ هذا الهيكل الانسانَ - بعد تلقيِهِ الأمانة- سيادةً نسبيةً على الطبيعة محددةً بالمكان و الزمان. و يقتضي هذا التدرج الوجودي التباين في المستويات المعرفية، فلا يُمكِنُ تفسيرُ علم الله على نفس المستوى المعرفي لعلم الانسان. و بذا، فان محاولات اعادة تشكيل الاسلام من خلال تغيير قواعد الفقه الاسلامي لن يقَدَّرُ لها النجاح على المدى البعيد.

المعرفة-الوجود-الوحي: أدّتْ كُلٌّ مِنْ فكرةِ الوحي، و انتصارِ القولِ بأنّ القران كلام الله، و القولِ بأنّ النبي عليه الصّلاة و السلام رسولاً لا كائناً شبه الهي الى اتسَاقٍ داخليٍّ بين المعرفة و الوجود. اذ يقومُ هذا الأتساق على فكرة الألوهية و التنزيه مُعَزِّزَةً التسامي الوجودي "وحدة الله" و بالتالي "وحدة الحياة" و" وحدة الحقيقة".أدّى هذا التماسكُ الداخليُّ بين الوجود و المعرفة و القيم في النظرة الاسلامية الى اجماع المدارس الاسلامية على رفضِ التعارضِ النهائيِّ بين الوحي المُنْزَلِ و العقلِ كأداةِ تفسيِر. بل انطلق استقلالُ العقلُ البشريُّ -حتى عند المعتزلة- من ذات الفكرة ما يُبْطِلُ الاتكاءَ على تراثِ الاعتزالِ لعلمنةِ التفكير الاسلامي، و لم يخرج كذلك تأثيرُ الفلسفة اليونانية في الفكر الاسلامي من هذه الطبيعة الوجودية. و بالمحصلة، تُقاوِمُ شفافيةُ و اتساقُ المكونات الداخلية للنظرة الاسلامية للوجود و المعرفة بشِدةٍ كلَّ محاولات اعادة صياغةِ الاسلام.
بينما اتّسَمتْ النظرةُ الغربيةُ بالتناقضِ و الغموضِ الناتج عن توليفٍ ثقافيٍّ جغرافيٍّ مزَجَ بين اللاهوت المسيحي و التراث الروماني و الفلسفة اليونانية و الثقافة التيوتونية و الأصول العبرية معاً. قادَ هذا التوليف الى "تخصيص الألوهية" على أساس تعدُّد الالهة أو حلول الاله في مخلوقاته. و هذا بدوره أدى الى تقارب المستويات الوجودية- مستوى الله و مستوى الانسان، و ظهور مؤسسات دينية تفسِّرُ تعقيدات اللاهوت. و مع ظهور افكار كوبرنيكس، نمتْ فكرة "مركزية الطبيعة" و نشَطَت المناداة "بمركزية الانسان" في أفكار الفلاسفة الغربيين، و التي سرّعت بالنهاية العلمنة و الأنسنة، و اصبحت نظرية المعرفة هي المحدِّدَةُ للوجودِ. اذن، أنَّ البناءَ الداخليَّ للنظرةِ الغربيةِ الذي يتمثَّلُ في حلولِ الآلهةِ بالمخلوقاتِ و تقارُبِ أو توحُّدِ المستويات الوجوديةِ متأثراً بثقافاتٍ معقدةٍ و متناقضةٍ هي أساس الفَهْم الذاتي الشخصي للدين و عملنةِ الحياة من خلال مبحث القيم العقلاني.

النتائج السياسية لاختلاف الرؤية الاسلامية للعالم عن الرؤية الغربية:

أوّلاً، مشكلة تسويغ النظام السياسي-الاجتماعي على أساس كوني-وجودي: ان أصل الدولة و هدف الدولة في النظرة الاسلامية و الغربية قامتا على أساسِ تمايُزِهما الفلسفي الوجودي. ففي الفكر الغربيّ، انطلق الاستقراء الارسطي على ذات الفهم الوجودي "حلول الالهة" فتوصَّلَ الى فكرةِ "المحرِّك الساكن" بوصفه جزء من الواقع الكوني لا خالقاً متسامياً حياً، و توصَّلَ أيضاً الى فكرة "أفضل وضع للدولة قابل للتطبيق". ما دشّنَ الى أنْ تتَبَلور لدى الفلاسفة الغربيين فكرة "الدولة الطبيعية" ذات التكيّف الذاتي القائمة على نظامٍ ماديٍّ مغلقٍ ذي سببيةٍ محددةٍ مستقلةٍ عن ارادة الالهه، و تبلورَتْ كذلك فكرةُ "العقد الاجتماعي". و قام تبرير هدف الدولة على قيم الرواقية و الابيقورية و المسيحية على اساس أنسنة الحياة و القانون. أي تحقيق الفضيلة اعتماداً على فكرة الحياة طبقا لقوانين الطبيعة و اعتبار الانسان عضواً في دولةٍ مدنيةٍ يعيش فيها و دولة كبرى ينتمي لها؛ تجلّتْ بالمحصلةِ بالمذهب الفردي و البراجماتية و الليبرالية.
و لكن يقوم التبريرُ السياسيُّ للدولةِ في الفكر الاسلامي بالأساسِ على عهدٍ متجاوزٍ لحدود التاريخ؛ ينطلقُ من التدرج الوجودي (الله - الانسان - الطبيعة). فقد حمَّلَ اللهُ المُطلقُ الانسانَ الأمانةَ ليُشكِّل سلطةً سياسيةً مسئولةً أمام الله. و بذا، تتحقُّق الوحدةُ في الصورة الوجودية و الصورة السياسية. اذ دمجتْ العلماني و المقدّس، الديني و الدنيوي، المادي و الأخلاقي بحيث يكونُ كلُّ فردٍ مسؤول امام الله دون الحاجة الى الكهنوتية او تسلط طبقة معينة. و بهذا، ظهرتْ فكرةُ "الدولة المثالية" و فكرةُ التحقُّقُ التاريخي لها في عهد النبي عليه الصلاة و السلام و عهد الخلفاء الراشدين. اذ تسعى هذه الدّولة الى تحقيقِ هدف رئيس هو "العدالة" على اساس شرعِ الله.

ثانياً، مشكلة شرعية السلطة السياسية: نبعتْ شرعية السلطة السياسية الغربية من عِدّة مصَادِر: [1] المعرفة الاستقرائية الارسطية. [2] الشرعية المسيحية التي تفصِلُ الحياة الروحية عن الحياة المادية. و بذلك، تحدَّدَتْ مشروعية العلاقة بين مؤسسة الدولة و المؤسسة الكَنَسية متأثِّرةً بفكر الرواقيين. [3] سيادة العقل البشري التي قطعتْ التسامي الوجودي مع الحياة السياسية و الاجتماعية متأثرةً بأفكار الفلاسفة مثل هوبز و لوك و كانط و هيوم و غيرهم. أدى ذلك كلّه الى جعل مصادِرَ الاجراءات المؤسسية بشريةً مثل المشاركة السياسية و البرلمان و الدستور و غيرها.
و لكِن تمَثِّلُ في الفكر الاسلامي وحدةُ الله و وحدةُ مسئولية الأنسان ركيزتي الشرعية السياسية. و تتَحَقَّقُ فرديةُ المسلم من فكرة مسؤوليته أمام الله ما تفرِضُ نظاماً قانونياً شاملاً يطَبَّقُ في اطار وحدة الحياة الروحية و المادية نابعة من معاييرٍ أبديةٍ ثابتةٍ تمثلُ الطريقَ المستقيمَ. و يتمثّلُ الشكل الاجرائي أوّلاً "بالبيعة" بوصفها اتفاق ثنائي يتعهد الحاكم ان يؤدي واجباته بحدود الشرع و يؤمِّن الجو الملائم للعبادة، و ثانياً "بالشورى" بعتبارها أمر من الله يضمَنُ مشاركةَ الناس في السياسة و منع الطغيان.

ثالثاً، التعددية السياسية و نظريات القوة: قامتْ القوةُ السياسيةُ في الأسلامِ على تعدديةٍ دينية - ثقافية بتبريرٍ وجوديٍّ. و قامتْ التعدديةُ الوظيفيةُ الاقتصادية - الاجتماعية الغربية على القوةِ السياسيةِ دون علاقه لها بالانطولوجيا. ففي الفكر اليوناني، نادى افلاطون بأنَّ القوي يفعل ما يشاء حينما يشاء، و نظر ارسطو الى القوة باعتبارها مصدر الحركة او التغيير كامنة في نفس الشيء و لكنّها شيء اخر. رأى الفكر الروماني القوة كمفهوم سياسي منعزلاً عن الوجود مؤشِّرَةً للحقوق و الواجبات؛ فاصبحت قوة سياسية بدلاً من القوة الاخلاقية اليونانية. دعمتْ المسيحية صور القوة المختلفة من خلال تحقيق التوازن عبر محاولات الفلاسفة المتعددة. اذ اختلف تفسيرهم للقوة اختلافا فنياً بين من رأى القوة هي العلاقات و من رأها التملك، لكنّهم لم يختلفوا في تفسيرهاً اختلافاً فلسفياً جوهرياً. ظهر الفهم الروماني للقوة في اللاهوت المسيحي المنعزل عن الوجود ما انهى السلطة البابوية و نشأت التعددية المستقلة بذاتها داخلياً- و التي تنبع أساساً من التعدد الوجودي (ديانات التعدد أو ديانات الحلول في العالم)- و تمثَّلَت اممداداتُها القيمية في البراجماتية و التجريبيبة.
بينما في الاسلام، فانَّ التسامي الوجودي القائم على الله بوصفه حضور حي تعود له جماع القوة هو أساس التعددية الدينية الثقافية الاسلامية، و هو أساس وحدة المؤسسة في التاريخ الاسلامي. تجلتْ تلك الصورة في القرآن الكريم و الحديث من خلال على طاعة الله و طاعة الرسول و أُولي الامر و لو كان عبداً حبشياً طالما أنّه حقَّق بالمُحصلة تكاملاً في البنية الاجتماعية و ليس طبقية، و حقَّق تركيز القوة عبر مركزية المؤسسة و الأجهزة الحكومية.

رابِعاً، المركزية و التعددية في النظام السياسي: اعتمدتْ الثقافةُ الاسلاميةُ السياسيةُ على تركيز القوة على أساسِ وحدةِ المؤسسة. و قدْ منعتْ اساءةَ استغلالِ القوة من خلال اعتماد قاعدةٍ قيميةٍ هي حماية سيادة القانون و استقلال القضاء كما ورد عند الغزالي و الجاحظ و ابن تيميه و ابن جماعة و غيرهم. و تشكلتْ ثنائيةٌ اجتماعيةٌ - سياسيةٌ تميِّز بين الراعي و الرعية من حيث طبيعة الدولة و وظيفتها في تحقيق العدل بما يبرِّرُ تركيْزُ القوةِ في صفوةٍ معينةٍ لضبطِ تلك الازدواجية و منع الصراعات. و هذا أساسه وجوديٌّ متمثلٌ في التوحيد و وحودة الحقيقة. و لمْ يمنع بالمقابل تركز القوة السياسية وجودَ تعددية اجتماعية - ثقافية لانه يقسم الناس افقياً حسب اتجهاتهم الوجودية ضمن مركز سياسي قوي موحد. و هذا يمثلُ الاتجاه الفردي في الاسلام و يناقض التقسيم الطبقي الهرمي الاقتصادي - الاجتماعي الغربي على أساس اقتصادي "كل ما يَحتاج اليه الناس ينبغي انتاجه" و التوزيع العادل، و ليس اساس غربي "كل ما يُنْتجُ ينبغي استهلاكه" ما انتج تعدديةً ذات سمة عالمية تقضي على تعدُّد الثقافات المحلية و تنتج ثقافة استهلاكية.

ختاما، يمكِن تحليل تنافر الأُسسِ النظرية و الفلسفية من خلال اطارٍ محددٍ من العلاقات المتداخلة بين علم الوجود و نظرية المعرفة و مبحث القيم و السياسة. انّ التحدي الغربي للحضارة الاسلامية هو لنظرة شاملة للعالم تُفْشِلُ استراتيجيات التغيير بالقوة، و ليس تحدٍّ لكيان و مؤسسات بديلة. اذ يُتيحُ الاتساق النظري الاسلامي دائما امكانية انتاج ثقافة سياسية بديلة بشرط تحقيق صلة مباشرة بين علم الوجود و السياسة طالما ظلَّ التناول الوجودي المعتمد على الاعتقاد في التوحيد موجوداً في الثقافة و التصورات الاجتماعية - السياسية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد