الدورة الاقتصادية في الأردن .. حقن ضئيل وتسرب كبير

mainThumb

06-07-2025 11:10 PM

في بنية الاقتصاد الكينزي، تتشكل الدورة الاقتصادية من توازن هش بين ما يُضخّ في الاقتصاد من استثمارات، وإنفاق حكومي، وصادرات، وبين ما يُسحب منه من ادخار، وضرائب، وواردات. حين تختل هذه المعادلة لصالح "التسرب"، تبدأ عجلة الاقتصاد بالتباطؤ، وتفقد دورتها الحيوية. وهذا تمامًا ما يعانيه الاقتصاد الأردني اليوم، إذ تشير المؤشرات بوضوح إلى أن حجم التسرب يفوق بكثير حجم الحقن، ما يؤدي إلى اقتصاد يستهلك أكثر مما يُنتج، ويستورد أكثر مما يُصدّر، وينمو بالاعتماد على الخارج أكثر من ذاته.

الأرقام الحديثة تكشف عمق هذا الخلل؛ فالعجز في الميزان التجاري بلغ نحو 2.37 مليار دينار في الربع الأول من عام 2025، نتيجة لواردات تجاوزت 4.68 مليار مقابل صادرات لا تتعدى 2.31 مليار. هذا يعني أن كل دينار يُنفق في السوق المحلي يتسرب جزءٌ كبير منه إلى الخارج، بدل أن يُعاد تدويره داخل الاقتصاد الوطني. ومع نسبة انفتاح تجاري تلامس 100٪ من الناتج المحلي، يصبح من الواضح أن الاقتصاد الأردني هشّ في قدرته على توليد قيمة محلية مضافة، والاحتفاظ بالدينار ضمن دورة إنتاج داخلية.

ورغم هذا، سجّل الناتج المحلي نموًا بنسبة 2.7٪ في الربع الأول من 2025، مقارنة بـ2.2٪ في الفترة نفسها من العام السابق. لكن هذا النمو، رغم إيجابيته الظاهرة، لا يعكس تحوّلًا هيكليًا، بل أقرب إلى تحسّن إداري محدود ضمن بيئة اقتصادية راكدة. فخطة التحديث الاقتصادي التي أُطلقت برؤية طموحة لتحقيق معدلات نمو تفوق 5٪ لا تزال حتى اليوم في طور الترويج النظري أكثر من التطبيق الفعلي، إذ لم تترجم بعد إلى إصلاحات ملموسة على الأرض.

جزء كبير من هذا التعثر يعود إلى استمرار ضعف الحقن الاستثماري، وخصوصًا في القطاعات الإنتاجية. فالدين العام، الذي يناهز حاليًا 92٪ من الناتج المحلي الإجمالي (دون احتساب أموال الضمان)، لا يمكن احتواؤه دون نمو حقيقي يعيد توزيع الثروة ويقلل الاعتماد على الاقتراض. في ظل هذا الواقع، تصبح سياسات الجباية مجرد أداة ضغط على المستهلك، تضعف الطلب، ولا تحفّز جانب العرض.

وهنا تظهر المفارقة المؤلمة: خطة التحديث، رغم احتوائها على محاور مهمة، لا تزال عاجزة عن اختراق البنية البيروقراطية التي تعيق المبادرة والاستثمار، ولا تزال المشاريع الصغيرة والمتوسطة تصطدم بجدران الترخيص المعقد، والتمويل المحدود، والمنافسة غير العادلة. والبيئة التشريعية ما زالت أقرب إلى العقابية منها إلى التحفيزية، ما يعمّق الهوة بين الخطط والرؤية من جهة، والتنفيذ والتأثير من جهة أخرى.

في المقابل، تظهر تجارب دول شبيهة كيف يمكن اختراق هذه الحلقة المفرغة. فالمغرب، على سبيل المثال، استطاع تقليص العجز التجاري من خلال تعزيز الصناعة المحلية وجذب الاستثمارات في قطاعات السيارات والطاقة النظيفة. أما فيتنام، فنجحت في بناء اقتصاد مرن بالاعتماد على الصناعات التصديرية، وتشجيع ريادة الأعمال، وتبسيط الإجراءات الحكومية بشكل جذري، ما ضاعف صادراتها الصناعية خلال سنوات قليلة.

ما يحتاجه الأردن ليس مجرد أرقام نمو، بل هندسة مؤسسية جديدة تدير الدورة الاقتصادية على أساس إنتاجي، لا ريعي. المطلوب ليس فقط زيادة الإنفاق، بل توجيهه نحو قطاعات منتجة: البنية التحتية، الصناعة، التكنولوجيا، التعليم، والتشغيل. ويجب تحويل البيئة التشريعية إلى حاضنة للاستثمار لا حاجزًا أمامه. فالإصلاح لا يكون بزيادة الضرائب بل بزيادة الجدوى الاقتصادية للمشاريع.

ولا يمكن لأي تحول اقتصادي أن ينجح دون الاستثمار الحقيقي في الرأسمال البشري. فالشباب الأردني يملك طاقات هائلة، لكنه يُدار بعقلية تقليدية لا تؤمن بالمبادرة، ولا توفّر له تمويلًا مرنًا أو بيئة احتضان ابتكارية. تمكين الشباب ليس شعارًا، بل هو مدخل أساسي لإنتاج دينار حقيقي داخل الحدود، واستعادة الحيوية من القاعدة إلى القمة.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه الأردن اليوم ليس نقص الموارد، بل نقص المرونة في التفكير الاقتصادي، والجمود في البُنى المؤسسية. لا يمكن بناء اقتصاد متوازن دون وقف النزيف الناتج عن التسرب، وحقن الدماء في شرايين الإنتاج الحقيقي. لا نحتاج إلى وصفات جاهزة، بل إلى شجاعة في إعادة هندسة الاقتصاد من الداخل، يحتاج إلى جرأة في التشخيص، وشجاعة في القرار، واستراتيجية تضع الكفاءة الوطنية فوق كل اعتبار.يحتاج إلى جرأة في التشخيص، وشجاعة في القرار، واستراتيجية تضع الكفاءة الوطنية فوق كل اعتبار، فالقضية ليست مجرد أرقام... بل مصير وطن.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد