الاقتصاد الأردني بين مفارقة الاستقرار وتحدي النمو الحقيقي

الاقتصاد الأردني بين مفارقة الاستقرار وتحدي النمو الحقيقي

14-12-2025 05:24 PM

رغم ما يتمتع به الاقتصاد الأردني من استقرار نقدي ومالي لافت في محيط إقليمي مضطرب، فإن معدلات النمو ما تزال دون مستوى الطموح التنموي، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.7% في النصف الأول من عام 2025، مع توقعات رسمية بأن يقترب النمو من 3% في السنوات المقبلة، هذه المفارقة بين الاستقرار والوتيرة المتواضعة للنمو تضع سؤال التنمية الحقيقي في صدارة النقاش: لماذا لا يتحول الاستقرار إلى قاطرة نمو أعلى وأكثر شمولًا؟

لا جدال في أن البنك المركزي الأردني أدى دورًا محوريًا في ترسيخ هذا الاستقرار، عبر الحفاظ على ثبات سعر الصرف، وضبط مستويات التضخم التي استقرت عند نحو 2%، وتعزيز احتياطيات أجنبية تغطي أكثر من 7 أشهر من المستوردات، ويتمتع القطاع المصرفي الأردني بملاءة قوية وصحة مالية جيدة، ما وفّر مظلة أمان عالية للاقتصاد في مواجهة الصدمات الخارجية، وهو ما تؤكده تقارير رسمية صادرة عن البنك المركزي ووزارة المالية.

غير أن هذا النجاح النقدي لم يُترجم بالكامل إلى تحوّل بنيوي في الاقتصاد الحقيقي، فما يزال الاقتصاد يعاني من اختلالات هيكلية مزمنة، أبرزها ضعف الإنتاجية، وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، إضافة إلى قاعدة إنتاجية محدودة التنوع، ويُبقي ذلك النمو رهينة لعوامل خارجية أكثر من اعتماده على ديناميكيات داخلية مستدامة.

وتظهر هشاشة النمو بوضوح في بنية الصادرات، إذ تشير أحدث البيانات إلى أن نحو 68% من الصادرات الأردنية تتركز في 8 مجموعات سلعية فقط، معظمها منخفض التعقيد، فيما لم تتجاوز حصة الصادرات الصناعية عالية التكنولوجيا 1.7%، ورغم أن الأردن يحتل المرتبة 45 عالميًا على مؤشر التعقيد الاقتصادي، فإن هذا الموقع لم يُستثمر بعد كأداة توجيه فعلية لاستراتيجية صناعية تستهدف قطاعات أعلى قيمة مضافة.

وفي السياق المالي، ورغم الالتزام الحكومي الواضح بضبط أوضاع المالية العامة، ما يزال الدين العام يمثل تحديًا كبيرًا حيث أنه مرتفعًا نسبيًا، برغم وجود تعهد رسمي بخفضه إلى 80% بحلول عام 2028، كما يُتوقع أن يتراجع العجز في الحساب الجاري إلى أقل من 5% من الناتج المحلي على المدى المتوسط، وهو تحسن مهم، لكنه يظل مشروطًا باستمرار التدفقات الخارجية ونمو الصادرات، بحسب تقديرات الحكومة وصندوق النقد الدولي.

أما على صعيد التمويل، فقد ظل الائتمان المصرفي ميّالًا تقليديًا نحو القطاعات الأقل إنتاجية، إلا أن هذا الواقع بدأ يشهد تحولًا تدريجيًا، إذ تعكس الحزمة التمويلية البالغة 1.1 مليار دولار من البنك الدولي توجهًا متزايدًا لدعم ريادة الأعمال والقطاع الخاص، مع تخصيص جزء مباشر لتمويل الشركات الناشئة، خصوصًا في قطاعات التكنولوجيا والخدمات الرقمية، وهي خطوة مهمة لكنها تحتاج إلى بيئة تنظيمية واستثمارية أكثر استقرارًا لتحقق أثرها الكامل.

ويمكن هنا الإشارة إلى قطاع تكنولوجيا المعلومات والخدمات الرقمية بوصفه مثالًا تطبيقيًا على كيفية تحويل الاستقرار النقدي إلى نمو إنتاجي، فقد استفاد هذا القطاع من استقرار سعر الصرف وانخفاض التضخم في جذب استثمارات خارجية، وتوسيع صادرات الخدمات، وخلق فرص عمل ذات قيمة مضافة عالية، ما يبرز أن الاستقرار حين يُوجَّه نحو قطاعات إنتاجية معرفية قادر على توليد نمو يفوق المتوسط العام للاقتصاد.

وفي هذا الإطار، تبرز أهمية البرامج الإصلاحية الجارية، مثل برنامج تمويل سياسات التنمية بقيمة 400 مليون دولار، الذي يستهدف تحسين بيئة الأعمال وتسهيل الوصول إلى التمويل، بما يمكن أن يشكل رافعة حقيقية للنمو إذا ما اقترن بإصلاحات تشريعية مستقرة وسياسات صناعية واضحة، كما يكتسب برنامج الحماية الاجتماعية القادر على الصمود بقيمة 400 مليون دولار أهمية خاصة في دعم الطلب المحلي وحماية الفئات الهشة خلال مرحلة الإصلاح.

ويبقى سوق العمل أحد أعقد التحديات، إذ لا يمكن لأي مسار نمو أن يكون مستدامًا دون معالجة بطالة الشباب، وهو ما يتطلب تعزيز مرونة سوق العمل، وتطوير التعليم والتدريب المهني بما يتواءم مع احتياجات القطاعات الإنتاجية الجديدة، وهي نقاط أكد عليها شركاء دوليون، وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، كشرط أساسي لتعظيم أثر الاستقرار الاقتصادي.

في المحصلة، يمتلك الأردن اليوم قاعدة صلبة من الاستقرار النقدي، وقطاعًا مصرفيًا صحيًا، واحتياطيات قوية تشكل أساسًا آمنًا للإصلاح، غير أن التحدي الحقيقي يتمثل في الانتقال من إدارة المخاطر إلى صناعة الفرص، ومن استقرار يُدار بكفاءة إلى نمو يُنتج فرص عمل وقيمة مضافة، فالاستقرار ليس غاية بحد ذاته، بل أداة، ولا تكتمل قيمته إلا حين يُسخَّر لبناء اقتصاد أكثر تنوعًا واعتمادًا على الذات.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد