خيانة القضية

mainThumb

06-07-2025 11:20 PM

تحليل موسّع في زيف ادعاءات الأنظمة العربية تجاه القضية الفلسطينية

المقدمة
قدّمت الأنظمة العربية دعمًا خطابياً طويل الأمد للقضية الفلسطينية، ورفعت شعارات “التحرير” و”القدس” و”الدفاع عن الشعب الفلسطيني”، لكنها في الواقع استخدمت القضية كأداة شرعنة سياسية داخلية أو كوسيلة للمساومة الخارجية.
وتُظهر الدراسات السياسية والميدانية أن هذا الزيف البنيوي لم يعد فقط انحرافاً عن الخطاب الأخلاقي، بل أصبح ضمن اتجاه أعظم (Megatrend) نحو إعادة رسم خرائط التحالف في الشرق الأوسط، بحيث تُستبدل فلسطين كقضية مركزية بإسرائيل كحليف إقليمي استراتيجي.

الإشكاليات:
• إلى أي مدى يُمكن توثيق زيف الخطاب العربي الرسمي تجاه فلسطين من خلال المؤشرات السياسية والإعلامية والمالية؟
• كيف يتناقض هذا الخطاب مع السلوك الواقعي؟
• ما هي اتجاهات المستقبل في هذا السياق؟ وهل تتجه الدول العربية إلى القطع التام مع فلسطين؟

الفرضيات :
1. الخطاب العربي حول فلسطين لم يكن تعبيراً عن التزام، بل غطاء شرعي لأنظمة سلطوية.
2. عملية التطبيع مع إسرائيل تُعبّر عن اتجاه استراتيجي ممتد، وليس مجرد رد فعل مرحلي.
3. توجد فجوة عميقة بين الخطاب الرسمي للدول العربية ومواقف الشعوب العربية التي لا تزال ترفض التطبيع وترفض التخلّي عن فلسطين.

أولاً: البنية التاريخية والسياسية لزيف الخطاب
• منذ عام 1948، رفعت الأنظمة شعارات تحرير فلسطين، لكنها لم تدخل مواجهة مباشرة مع الاحتلال سوى نادراً.
• كامب ديفيد (1979) مثلت أول اعتراف بإسرائيل من مصر، تبعتها وادي عربة (1994) بين الأردن وإسرائيل، لتتقلّص بعدها مركزية فلسطين في القمم والخطابات.
• اتفاقات أبراهام (2020) مثلت “تدشيناً رسمياً” لمفهوم التحالف بدل العداء مع إسرائيل.
مؤشر: بحلول 2025، وقّعت 6 دول عربية اتفاقات سلام أو تطبيع مع إسرائيل: مصر، الأردن، الإمارات، البحرين، السودان، المغرب.

ثانيًا: السلوك العربي بالأدلة والبيانات
1. معبر رفح (مصر – غزة):
• أغلق أكثر من 220 يومًا في 2023 و2024، مما منع أكثر من 12,000 مريض من العلاج خارج غزة، بحسب تقارير “المرصد الأورومتوسطي”.
2. تصنيف فصائل المقاومة:
• الإمارات والسعودية تصنّفان حماس كـ “منظمة إرهابية”، وتدعمان دوليًا تصفية وجودها في غزة.
3. الإعلام الرسمي:
• القنوات الخليجية ووسائل الإعلام المصرية نشرت خلال 2021–2024 أكثر من 400 تقرير يتهم الفلسطينيين بـ “بيع الأرض” أو “العداء للدول العربية”، حسب مرصد السرديات العربية.
4. التمويل المشروط:
• السعودية خفّضت تمويلها لوكالة الأونروا بنسبة 73% بين 2016 و2022، بحسب تقرير صادر عن الأونروا نفسها.

ثالثًا: مؤشرات التطبيع كاتجاه أعظم
• تحالفات أمنية مشتركة: تدريبات عسكرية بحرية مشتركة بين إسرائيل والإمارات (2022 و2023)، واتفاقيات استخبارية معلنة.
• مشاريع استراتيجية:
• “نيوم” السعودية يتضمّن ربطًا محتملاً مع موانئ إسرائيلية على البحر الأحمر.
• “الممر الهندي–الأوروبي عبر الخليج وإسرائيل” بديلاً لقناة السويس، برعاية أمريكية–سعودية–إماراتية–إسرائيلية.
• السلام الاقتصادي: خطاب بديل يروّج لمشاريع تنمية بدلاً من إنهاء الاحتلال.

رابعًا: مؤشرات الرأي العام والشعبي
و بالتضاد مع شعوبها ، تستمر الأنظمة العربية في ركوب قطار التطبيع مع اسرائيل ، في حين أن الشعوب ترفض التطبيع كما يتضح مما يلي:
• استطلاع Arab Barometer (2023–2024):
• التأييد للتطبيع في الدول العربية لا يتجاوز 13%، وكان الأعلى في المغرب (13%) بعد أن كان 31% في 2020.
• مؤشر الرأي العربي السنوي (2022):
• 84% من العرب يرفضون الاعتراف بإسرائيل.
• 79% يرون القضية الفلسطينية شأنًا عربيًا إسلاميًا مشتركًا، لا شأنًا فلسطينيًا داخليًا فقط.
• استطلاع فلسطيني داخلي (2024):
• 63% يرون أن تطبيع الدول العربية “خيانة مباشرة”، و53% يحمّلون الأنظمة العربية مسؤولية دعم الاحتلال إعلاميًا وسياسيًا.
و في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أننا امام اتجاهين متضادين فيما يخص القضية الفلسطينية
الاتجاه الأول : اتجاه التطبيع و السلام(التسوية) و تقوده جل ما يسمى بالأنظمة السياسية العربية المعتدلة ، و قد أسقطت تلك الأنظمة كل خياراتها و تمسكت بخيار التطبيع و التسوية لا بل و اعتبار الكيان الصهيوني حليفا و شريكا و أقامت معه كل أشكال العلاقات السياسية و الاقتصادية و العسكرية و الاستخباراتية
الاتجاه الثاني : اتجاه العداء للكيان الصهيوني و مقاومته ، و هو اتجاه تقوده حركات المقاومة كحماس و حزب الله و جماعة أنصار الله ؛ بالإضافة إلى نسبة كبيرة من الشعوب العربية و الاسلامية ، التي لا تزال ترفض التطبيع و تعتبر اسرائيل عدوها الأول
و مما لا شك فيه أن الاتجاه الأعظم لمسار القضية الفلسطينية و بقائها كقضية مركزية لكل العرب و المسلمين ، و اعتبار الكيان الصهيوني كيان غاصب و غير طبيعي ، يعتمد على تماسك اتجاه المقاومة و العداء للكيان ، و تطوير هذا الاتجاه لقدراته و تمسكه بخياراته و عدم الرضوخ لأولويات الاتجاه الأول .

خامسًا: الاتجاهات المستقبلية الكبرى:
يشير الاتجاه الأعظم لمسار القضية الفلسطينية و تعامل الأنظمة العربية معها إلى اتجاه تصفية القضية الفلسطينية ، حيث تحول الصراع من صراع عربي اسرائيلي الى صراع فلسطيني اسرائيلي ، كانت بوادره الأولى في قمة الرباط عام 1964 ، حيث تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي و وحيد للشعب الفلسطيني ؛ و كان هذا بمثابة تكرار لموقف بني اسرائيل مع موسى عليه السلام { قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }(24)المائدة.
وتواصل الاتجاه الأعظم بتخلي الأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية ، بتوقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد عام 1979؛ فكانت الاتفاقية اعلانًا رسميا عربيا لاسقاط خيار الحرب مع اسرائيل و رفع شعار التسوية و السلام ، و تبع مصر مجموعة من الدول العربية سواء بتوقيع اتفاقيات تسوية كالاردن و اتفاقية وادي عربة 1994 و تلتها دولا أخرى بتوقيع اتفاقيات التطبيع الكامل كالمغرب و الإمارات و البحرين و عمان و كانت السعودية في طريقها للتوقيع لولا عملية طوفان الأقصى .
و يظهر هذا الاتجاه في المؤشرات التالية :
1. تراجع مركزية فلسطين في الخطاب الرسمي والتعليم والإعلام.
2. تحالفات الشرعية الخارجية: أصبحت واشنطن وتل أبيب شريكتين في حفظ بقاء بعض الأنظمة.
3. إعادة تعريف العدو: أصبحت إيران والمقاومة الفلسطينية هي “التهديد”، بينما إسرائيل “شريك استراتيجي”.
4. تجفيف بيئة المقاومة: تضييق مالي، قانوني، وإعلامي على كل ما يُمثّل خطاب المقاومة داخل وخارج فلسطين.

الخاتمة
نحن أمام انزياح تاريخي في مواقف الأنظمة العربية تجاه فلسطين، بلغ مستوى التواطؤ العلني سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وقد أصبح واضحاً أن بعض الأنظمة لا ترى في إسرائيل عدواً، بل شريكاً في تحصين النظام الإقليمي الجديد.
لكن هذا لا يعني نهاية القضية الفلسطينية؛ بل يؤكد ضرورة الانتقال من الرهان على الأنظمة إلى الرهان على الشعوب، وعلى أدوات المعرفة والوعي والمقاومة الثقافية.


مراجع مختارة
• كنعان، خالد. “تحولات الموقف العربي من فلسطين.” السياسة الدولية، العدد 210، 2023.
‏ • Amnesty International. Israel’s Apartheid Against Palestinians. Report, 2022.
‏ • Arab Barometer Reports, 2023–2024.
• مركز دراسات الشرق الأوسط – بيرزيت، “مسارات التطبيع الإقليمي”، 2023.
• المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، تقارير 2024.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد