الاستدامة الاقتصادية: رؤية للأردن والوطن العربي

mainThumb

24-08-2025 11:29 PM

تُعدّ الاستدامة الاقتصادية اليوم معيارًا لقياس قوة أي اقتصاد، فلم يعد النمو يقاس بحجم الأرباح فقط، بل بقدرته على الاستمرار دون استنزاف الموارد أو إقصاء الفئات الاجتماعية. في هذا الإطار، يقف الأردن والوطن العربي أمام تحديات وضغوط متزايدة، لكنهما يملكان في الوقت نفسه فرصًا واعدة إذا ما استُثمرت الإمكانات بوعي.

الاستدامة الاقتصادية تعني ببساطة تحقيق توازن بين النمو والعدالة وحماية البيئة. فهي تقوم على أساس أن التنمية ليست مجرد أرقام في الناتج المحلي، بل هي بناء اقتصاد قادر على الصمود أمام الأزمات، مع ضمان حياة كريمة للأجيال القادمة. وعندما نتأمل التجارب العالمية، نلحظ أن الدول التي ركّزت على هذا التوازن أصبحت أكثر قدرة على مواجهة الصدمات المالية والبيئية.

في الأردن، تظهر قضية الطاقة كأحد أبرز التحديات. فالاعتماد الكبير على استيراد النفط والغاز أثقل الموازنة لعقود، إذ يستهلك قطاع الطاقة نحو 8% من الناتج المحلي. غير أن المملكة اتجهت مؤخرًا إلى الطاقة الشمسية والرياح حتى أصبحت تسهم بما يقارب 29% من الكهرباء، مع هدف للوصول إلى 50% بحلول عام 2030. إذا تحقق هذا الهدف، فإنه سيخفض فاتورة الاستيراد بشكل ملموس، ويخفف الضغط على ميزان المدفوعات، ويخلق فرصًا جديدة في قطاعات صناعية مثل تصنيع الألواح الشمسية وتكنولوجيا البطاريات.

أما البطالة فتظل هاجسًا مقلقًا، إذ تتجاوز نسبتها 21%، بينما ترتفع بين الشباب إلى قرابة 47%. هذه الأرقام تعكس فجوة بنيوية في سوق العمل لا يمكن معالجتها فقط بخلق وظائف تقليدية. المطلوب هو الاستثمار في القطاعات غير التقليدية ببناء بيئة حاضنة للابتكار وريادة الأعمال، بحيث تُستثمر الطاقات الشبابية في مجالات التكنولوجيا الخضراء، والاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا، والخدمات الصحية المتقدمة، وقطاع التعليم اذكي، والاقتصاد الاخضر والدائري، والصناعات الإبداعية. عندها يتحول الشباب من عبء اقتصادي إلى محرك رئيسي للنمو المستدام.

على المستوى العربي، يظل الاعتماد المفرط على النفط نقطة ضعف مزمنة. تقلبات أسعار الطاقة أظهرت هشاشة النماذج الريعية، ما يجعل من الضروري تنويع مصادر الدخل. هنا تبرز أهمية المقارنة بين دول غنية بالموارد وأخرى محدودة مثل الأردن ولبنان وتونس. فبينما تملك دول الخليج فوائض مالية تساعدها على تمويل التحول، تواجه الدول محدودة الموارد تحديًا مزدوجًا: شح الإمكانات وارتفاع الطلب الاجتماعي. لذلك فإن نجاح الأردن مثلًا في رفع حصة الطاقة المتجددة يعد إنجازًا مضاعفًا مقارنة مع بيئته الإقليمية.

المجتمعات العربية شابة في معظمها، حيث يشكل من هم دون الثلاثين أكثر من نصف السكان. هذه النسبة قد تكون قوة دفع كبيرة إذا توفرت فرص التعليم والتدريب والرقمنة، لكنها قد تتحول إلى عبء إذا استمرت البطالة والفجوات الاقتصادية. البعد الاجتماعي هنا جوهري: فغياب العدالة في توزيع الفرص يزيد من الهشاشة الاقتصادية، ويقوض أي مسار نحو الاستدامة. لذلك يصبح الاستثمار في التعليم النوعي، مشاركة المرأة، والحد من الفوارق بين المركز والأطراف عناصر أساسية في بناء اقتصاد متوازن.

هناك نماذج عربية ملهمة: المغرب يرفع طاقته المتجددة بخطط تصل إلى 52% بحلول 2030، ومصر دشّنت مشروع "بنبان" للطاقة الشمسية كأحد أكبر الحقول عالميًا، والإمارات وضعت هدف الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050. غير أن المقاربة الأهم تكمن في أن بعض هذه الدول تملك قدرات مالية كبيرة، بينما يسعى الأردن وتونس ولبنان لإيجاد حلول إبداعية في ظل شح الموارد. هذا التباين يجعل من تجارب "الاقتصادات الصغيرة" أكثر قربًا وملاءمة لبعضها البعض.

المؤشرات العالمية تعطينا دروسًا إضافية: فالدنمارك تنتج نحو 60% من كهربائها من الرياح، وكوستاريكا تعتمد بنسبة تقترب من 98% على الطاقة المتجددة. مثل هذه التجارب تثبت أن الإرادة السياسية والتخطيط طويل المدى يمكن أن يحولا الاقتصادات الصغيرة والهشة إلى نماذج عالمية، وأن قلة الموارد ليست عائقًا بل قد تكون دافعًا للابتكار.

تحقيق الاستدامة الاقتصادية في الأردن والعالم العربي يحتاج إلى تعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع. الأمر يتطلب سياسات تشجع على الاستثمار الأخضر، وتحفيزًا للمواطنين لتبني أنماط استهلاك مسؤولة، إضافة إلى أدوات تمويل مبتكرة مثل السندات الخضراء، ومؤشرات شفافة لقياس التقدم. الأهم أن يُنظر إلى الاستدامة باعتبارها خيارًا استراتيجيًا، لا مجرد مشروع مرحلي.

الخلاصة أن الأردن يمثل صورة مصغرة للتحديات العربية: موارد محدودة، بطالة مرتفعة، وضغوط بيئية. لكن هذه التحديات قد تتحول إلى فرص إذا جرى الاستثمار في الطاقة النظيفة، التعليم، ريادة الأعمال، ومشاركة المرأة. ولعل السيناريوهات المحتملة تعكس ذلك بوضوح: فإما أن تستمر المنطقة في الاعتماد على أنماطها التقليدية بما يحافظ على الهشاشة، أو أن تتبنى سياسات استدامة جادة تقودها إلى اقتصاد أكثر مرونة وعدالة. في الحالة الثانية، لن يكون الأردن مجرد متأثر بالتحولات، بل فاعلًا يقدم نموذجًا يمكن أن يُحتذى في المنطقة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد