ضربة على خاصرتي

mainThumb

11-05-2025 06:18 PM

لعنتُ كل شيء قبل أن أغادر: الكتب، الأوراق المتراكمة، الأقلام المبرية، قناني الماء عند قدمي، وهدية حبيبتي. رميت معطفي على ظهري، لأغادر عبر ذلك الباب المهترئ ويحتويني صخب زقاقنا الضيّق. على جنبات المنازل، مزاريب تتقطر فوق دلاء ممتلئة، وسطل قمامة ملقى على جانبه بعد أن ارتطمت به كرة الأطفال، فبقي طريحًا.

النساء يصطففن على الجدران، كل مجموعة على حدة، يتبادلن أخبار الجيران وعيوب المارة. بين الحين والآخر، تصرخ إحداهن بالصغار الذين يملؤون الزقاق، يركضون خلف الكرة كما يركض المتسولون خلف دراهم قليلة. ترتطم الكرة بجمع النساء، بباب، أو بنافذة... وأخيرًا بوجهي، بينما كنت أستدير بعد إغلاق الباب، فأغدو موضوع سخرية لهن، ولساعة أو اثنتين من الضحك.

أسير مبتعدًا، فيوقفني صبي صغير بخبثه المعتاد أمام النساء، متوسلًا درهمًا. أكتم غيظي، أمد يدي لجيبي المثقوب، ثم نحو الجيب الداخلي، وأمنحه الدرهم فيمضي مهرولًا.

أتابع سيري، أضيف إلى لعناتي القديمة لعنات جديدة، أوزعها على الفقراء... وأنا منهم. يدور السؤال في ذهني كدوامة: لماذا يُنجب الفقراء كثيرًا وهم بالكاد يطعمون أنفسهم؟
كأنهم يستعدّون لمعركة قادمة، وجنودهم إمّا صعاليك، متشردون، أو أبناءٌ يتنصلون منهم. والمبرر دائمًا: "الولد يجي برزقو".

الفقير لا يجد متعة تضاهي متعة الجنس؛ ينتظر الليل لينفس عن إذلال رب العمل، وضغط الفواتير، وتعب النهار، فيسقي تربة امرأته بعد نوم الأولاد، خلف جدار قماشي هش لا يحجب الآهات.

تتسلل إلى سمعي أصوات بعيدة، أتبعها كقطة تتبع رائحة سمك. أبتعد عن الحي الضيق المترب إلى الشارع المعبد، الأرصفة أنيقة، ومئات المتظاهرين يملؤون الطريق، يعطّلون حركة المرور، وأبواق السيارات تصرخ.

تتكرر المظاهرات كل أسبوع، دون مجيب. رجال ونساء انحنت ظهورهم بعد سنوات من التعليم على خشبة الدرس، والآن يُجلد الأستاذ بعصا تلميذ الأمس.
أحذو حذوهم، أصرخ بينهم، أطالب بحق لا يخصني لكنه يعنيني. أرجو أن يعود المعلمون لصفوفهم، علّ الزقاق يخفت، والصبية ينشغلون.

وفجأة، تسقط امرأة، رجل حافٍ يبحث عن نظاراته، وتبكي أخرى... ويسقط النظام.

في ذروة الزحام، يهتز هاتفي. رسالة منها:
"تعال، أنا في انتظارك."

أغادر الحشد مسرعًا، أرتطم بالأجساد، حتى أرتطم بجدار بشري صلب... ضربة على خاصرتي بعصا سوداء، أهرب وأضيفها إلى قائمة لعناتي الطويلة، أتحسس موضع الألم بيدي اليسرى.

عدّلت ثيابي، وتوجهت إلى بيتها... ذلك القصر المزخرف. ضغطت الجرس، فتحت الخادمة، نظرات مقت متبادلة. عداء غير مفسّر، ربما لأني أذكرها بفقرٍ أعيشه، وهي وسط البذخ.

دخلتُ دون حديث، توجهت إليها، المرأة التي تجاوزت الخمسين وتبدو في الثلاثين. كانت ممددة على كرسي مقابل المسبح، تبادلنا القبل على الجبين وكلمات قصيرة.
ماذا لو علمت أني من طبقة يطؤها أسيادها؟ لا أصلح عشيقًا ولا زوجًا لابنتها، ومع ذلك، ما زلت أختبئ في ظل حبها.

دخلت غرفة حبيبتي. طرقت الباب، ففتحت لي بذراعين مفتوحتين. جلسنا على طرف السرير، تبادلنا كلمات الحب، ثم قامت فجأة وأغلقت الباب. أصبحنا وحدنا.
رفعتها إلى السرير. تجرّدنا. أبلغت بها ذروة الشبق... ثم رميت نفسي خارجًا، جسدًا مستعملًا، آلة لتلبية رغباتها، وهي من أسميها "حبيبتي".

قالت لي يومًا:
"ما أجمل أن تكون حرًا، تتصرف كما تشاء."

لم أجب. تأملت فقط. هل الإنسان حر فعلًا؟
الحرية مجرد وهم؛ تقيّدنا التقاليد، القيود، الرغبة، وحتى الإيمان.

عادت السيارات تعبر الطرق، وعاد الأستاذ محمّلًا بخيبة. النساء انسحبن من الزقاق مع حلول الظلام، الذي لم يجد مصباحًا يواجهه.
جلست في مكتبي. أحاول اصطياد فكرة. كل محاولاتي تائهة.
وأخيرًا، أمسكت بالخيط، بدأت أكتب. خفت أن تهرب الفكرة كما هربت سابقاتها. كنت كصعلوك عطشان وجد جرة ماء... فارتوى.

ختمت السطر الأخير، ألعن ذاكرتي التي تأخرت في منح الإلهام.
لو جاء مبكرًا، لما طلب مني الصبي درهمًا،
ولما تلقيت ضربة على خاصرتي،
ولما... ضاجعت "حبيبتي".






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد