ضد علال الفاسي… ضد عبد الرحيم بوعبيد

mainThumb

11-06-2025 02:36 AM

صدمتني الرسالة الموجهة إلى رئيس الحكومة المغربية من قبل جمعية تطالب فيها بإحلال أسماء يهود محل شخصيتين وطنيتين في أحد شوارع أكَادير: علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، بدعوى أن المكون اليهودي من بين مكونات المجتمع المغربي، كما ينص على ذلك دستور 2011. لا أرى في إطلاق أسماء بعض اليهود الوطنيين من أمثال إدموند عمران المالح أو جرمان عياش، الذي خدم التاريخ المغربي، ورفض الصهيونية التي رآها وليدة الفكر الاستعماري، على شوارع جديدة لم يطلق عليها أي اسم بعد، أي حرج. ولكن أن يُطالَب بمحو اسم علمين قدما تضحيات جسيمة في تاريخ المغرب الحديث، وكانت لكل منهما مساهمات لا يمكننا إنكارها، مهما كانت مواقفنا من الرجلين، فإن هذا يمثل أقصى درجات الجرأة والوقاحة والقرف والاستهانة بالذاكرة المغربية الحديثة.
إن الرسالة تعبير صارخ عن ذهنية التفكير بالإبادة وإثبات الذات على حساب من تقوم بتطهيرهم وجوديا، ومحوهم من الخريطة. أليست خرائط غوغل مزدانة بأسماء شوارع؟ والتفكير بالإبادة لإثبات الذات من المقومات التي يبنى عليهما الفكر الصهيوني منذ نشأته. وما نراه منذ أكثر من ستمئة يوم في الحرب التي تقوم بها الصهيونية على غزة والضفة وتهديد أمن المنطقة، سوى دليل على تلك الذهنية المبنية على المحو والتطهير العرقي. وما تقوم به اليوم اضطلعت به منذ 1948 حين غيرت أسماء المدن والقرى والشوارع والمرافق الحيوية للدولة الفلسطينية لتمنحها أسماء عبرية، بالإضافة إلى سرقتها التراث العربي الفلسطيني من ألبسة وأكلات لتقدمها للعالم على أنها يهودية صرفة. وهو ما قامت به أيضا مع المغرب، حيث صار الأرَكَان والتمر المجهول من البضائع التي تسوق عالميا على أنها إنتاجات محلية إسرائيلية.
لقد ظل المغرب طيلة تاريخه فضاء للتعايش والتسامح مع اليهود، وجد اليهود مع كل القبائل المغربية، وعاشوا في مختلف المدن والقرى وتطبعوا بطباعها وعاداتها وتقاليدها وغنائها، وأي منطقة وجدوا فيها، كانوا يتحدثون لهجاتها، عربية أو أمازيغية. وكانت لهم في كل ذلك عاداتهم الخاصة التي لم تتدخل فيها الدول المغربية ولا السكان على مر العصور.

كنت في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات أمر من شوارع درب ابن جدية، فأرى بعض اليهود في حوانيتهم بشاشياتهم المميزة يتلون العهد القديم، دون أن يطالبهم أحد بإخفائه أو تلاوته في مخادعهم. وهو ما لاحظته في فاس أواسط السبعينيات في الملاح وفاس الجديد. كان السكان يتعاملون معهم، ويضحكون ويسخرون بلا عقد تنبني على التميز الديني أو العرقي. وكانت مدرسة شارع السلاوي، لا يفرق بينها سوى سور يميز مدرسة اليهود عن مدرسة المسلمين. وخارج المدرسة كان التلاميذ يهودا ومسلمين يتحدثون ويلعبون. وحدث مرة أن جلب أخي الأكبر محترفا يهوديا ليبدل لنا الأفرشة في عز الصيف، فظل والدي إلى جانبه يراه ما يصنع، وهو يتحدث معه عن كل شيء. هذه هي الصور التي عشناها، وهي دالة على ما ظل يتميز به المغرب طيلة قرون من التاريخ والحضارة.
حاول الاستعمار الفرنسي اللعب على التعدد اللغوي والثقافي بإصدار الظهير البربري الذي نجد مؤرخين فرنسيين، وباحثين من جنسيات متعددة يكشفون نواياه وخلفياته المشينة في مؤلفاتهم منذ الأربعينيات إلى الآن. وها نحن الآن نجد من يشكك فيه، ويراه نزق «شبيبة» طائشة، وكأن النضال من أجل الاستقلال لم يقم به إلا الشيوخ، بل إن التشكيك والهجوم لم يقتصر على التاريخ المغربي الذي بناه المغاربة بكل أطيافهم وأعراقهم ولغاتهم، بل نجد بعضهم الآن في ظل الهيمنة الصهيونية، والتدخل السافر والكامن في منطقة الشرق الأوسط والشمال الافريقي، والمغرب خصوصا، يسعى إلى اعتبار مكون واحد أوحد هو كل شيء، وما خلاه، مهما كانت أصوله ولغاته يرتدُّ إليه. أليس المغرب، في عرف هؤلاء، مهد البشرية، وأن سكانه الأصليين لم يأتوا من أي مكان، وأن الإمبراطورية المورية، والإنسان الموري، والإله الموري هم كل التاريخ والجغرافيا. لا وجود لشيء اسمه الدولة المغربية، بل إنها الدولة «المورية». يكرهون كلمة المغرب لأنها مقابل لكلمة المشرق: ألد أعدائهم، و»دم أسنانهم».

جاء دستور 2011 ليكون لُحمة جامعة لمختلف مكونات المجتمع المغربي، لكن الذي وقع هو أن بعضهم صار يستغل ما يقره هذا الدستور من تنوع وتعدد ليركز على هوية واحدة، ويراها كل شيء، ويلغي بذلك الهوية العربية ـ الإسلامية بصورة خاصة، بل يدرج كل المنجزات التي تحققت باللسان العربي، وفي ظل الإسلام، والتي ساهم فيها المغاربة جميعا على أنها من صنيع تلك الهوية الأحدية. وحتى التراث وكذا المعمار الأندلسي صار موريا، بل وكل الدوارج المغربية صارت أمازيغية معربة، ولا وجود لعربي في المغرب.
إن الدعوة إلى محو اسمي علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، جزء من الهجوم على الحركة الوطنية التي يكرهها هؤلاء بدعوى أنها سبب تعريب المغرب؟ ولا يتحدثون عن معاناتها وتعرضها للسجون والمنافي من أجل الاستقلال. وإذا كان علال الفاسي من بين من دافع عن التعريب ضد الفرنسة، سأهمس في أذان هؤلاء لعلهم يبصرون، لأقول لهم في ضوء تحليلاتهم السخيفة: إنكم بهذا تجعلونه بطل التعريب وأسطورته ليس في المغرب فقط، بل في كل «الإمبراطوية المورية» من الواحة إلى المحيط. لنكن وطنيين مغاربة في مستوى دستور لم تحظ به دولة من دول الربيع العربي، لأنه وليد تاريخ وحضارة. أما المحو لفرض ذات معينة محل ذوات أخرى، فاستغلال بغيض لدستور يتسع للجميع، والتفاف على تاريخ وجغرافيا ساهم فيهما كل المغاربة بلا أي تمييز.

كاتب مغربي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد