غرفة العمليات

mainThumb

26-06-2025 08:56 PM

أستطيع أن أُجزم أنني وبفضل الله بلغت الأربعين من عمري، ولم تطأ قدماي مستشفى قط، لا كمريض ولا حتى كمراجع، كنا نحن،الذين يرعبهم حتى المرور من أمام المستشفى والمترددين امام الإبر ومشرط الطبيب – نعيش على المسكنات، نُداوي الألم بالصبر والدعاء. نُقاوم حتى ندخل في عقدنا الخامس، ثم تبدأ أجسادنا بالتراجع: آلام في الظهر، وديسك، ومفاصل عاجزة عن حملنا، يليها ضغط وسكري، ودفتر أمراض مزمنة نضعه في الجيب كالبطاقة الشخصية.
في أيام كورونا، كنت أول من تلقى المطعوم في الحارة، وأكملته بالثاني والثالث. ومنذ ذلك الحين، لا أدري إن كان من أثر اللقاح أو أمر آخر، لكني أصبحت زبونًا دائمًا للمستشفيات.
أذكر، قبل عامين، راجعت قسم الطوارئ في مستشفى السلط، كنت أعاني من ألم في صدري وضغط مرتفع. بعد الفحوصات، أصر الطبيب على إدخالي فورًا لإجراء قسطرة قلب صباح اليوم التالي. حينها فقط، شعرت بالدنيا تدور من حولي، وكأنني في دوّامة مدينة ملاهٍ، وانتابني قلق لم أعرفه من قبل.
قضيت الليل بلا نوم، عيني لا تفارق نافذة الطابق السابع، أراقب السيارات التي تمر نحو المستشفى، وأرتجف كلما رأيت سيارة إسعاف قادمة من شارع الستين، متوجسًا أنها قد تحمل مصيرًا شبيهًا بما ينتظرني.
مع شروق الشمس، طلب مني الممرض أن أخلع ملابسي وأرتدي( الدسبوزبل جاون) هو عبارة عن مريول أزرق مصنوع من الورق، يُستخدم لمرة واحدة فقط،ارتديت المريول وتحرك الممرض حيث بدأ بدفع (الترولي) الحماله،شعرت وكأن المسافة من غرفتي إلى غرفة العمليات أطول من الطريق إلى الحج. كانت الغرفة باردة حد الارتجاف، والبرودة التي شعرت بها لم تكن فقط من الجو، بل من الخوف الذي تسلل إلى أعماقي.
دخل الممرض، رجل بشارب بارز يظهر من خلف الكمامة، سلّم عليّ بحرارة وكأنه يستقبلني في وليمة منسف، لا غرفة عمليات. وعندما قرأ اسمي، قال ضاحكًا: "أنت اللي بتطلع بالتلفزيون؟ يا دكتور حسين، تعال شوف تبع الكاميرا الخفية!"
وبعد دقائق معدودة، انتهت القسطرة بسلام، قال لي الطبيب بابتسامة مطمئنة: "الحمد لله، أمورك طبيعية". لم أصدق أن الأمر انتهى بهذه البساطة.
لكن بعد أشهر، وخلال زيارة دورية لصديقي الدكتور وضاح الجوهري، لاحظ شيئًا غير طبيعي في الصور. قال لي بصرامة، وهو المعروف بصراحته مع المرضى: "فيه شيء مش واضح، ممكن ورم، كيس، أو شيء آخر… لازم تنظر."
منذ تلك اللحظة، لم أذق طعم النوم شهرًا كاملًا. كنت أُحصي الاحتمالات كما يحصي التاجر الخسائر. ثم جاء موعد العملية، وكانت المفاجأة أن عدد الفريق الطبي هذه المرة تضاعف: طبيبان، وطبيبة تخدير، وثمانية من الممرضين والممرضات. فقلت في نفسي: "أكيد الوضع خطير، إذا عملية القلب كانت بطبيب وممرض، فماذا عن هؤلاء؟!"
خُيّرت بين التخدير النصفي والكامل، فاخترت النصفي متعللًا بضيق في التنفس، والحقيقة أن خوفي من البنج كان أعمق من أي تفسير.
كان خوفي لسببين: السبب الأول هو خوفي من التخدير والعملية ذاتها، بما تحمله من احتمالات وأوهام لا تهدأ. أما السبب الثاني، والأهم، فكان خجلي الشديد من طاقم الممرضات وطبيبة التخدير. كنت قلقًا، بل مرعوبًا، من أن تسحب قطعة القماش التي تغطي الجزء السفلي من جسدي، ولو بالخطأ. كان خجلي أشد وطأة من مشرط الجراح، وخوفي أشد من صوت الأجهزة حولي.
ثم، كرّر طبيب التخدير الاول ذات المشهد الطريف الذي حصل بالعملية الجراحية الاولى قبل أشهر ،حين قال لي بعد أن قرأ أوراقي والتقرير، نظر إلي وسأل:
اسم المريض عاطف أبو حجر؟ شو بقرباك اللي بطلع بالتلفزيون؟"
أجبته بهدوء:أنا
وفجأة، وبعد أن كان يهمس لي بصوت منخفض، رفع صوته وقال بحماس:
"يا جماعة! عارفين مين مريضنا؟ هذا اللي بطلع يتخوث على الناس بالتلفزيون!"
صراحةً، ضحكت ضحكة مصطنعة، لأنني كنت في وضع لا أُحسد عليه. ، فانفجر الجميع بالضحك، وارتسمت على وجهي ابتسامة مجاملة تخفي خلفها ارتجاف الخوف والقلق.
لكن تعامل الطاقم الراقي، واحترامهم وخبرتهم، هدّأ روعي، وساهم في إزالة خوفي وتوتري. أجريت العملية، وبفضل الله لم يجدوا أثرًا للورم. خرجت من غرفة العمليات منتشيًا، ممتنًا، رغم آثار البنج.
لم تكن مجرد عملية. كانت لحظة فارقة، أعادت ترتيب أولوياتي، وذكّرتني بضعف الإنسان مهما بلغ من قوة، وبأهمية الكلمة الطيبة، والابتسامة، والرحمة في مهنة الطب.
غرفة العمليات لم تكن مكانًا للمرض فحسب، بل كانت فصلًا إنسانيًا عميقًا في حياتي. خرجت منها لا فقط بجسد سليم، بل بقلب ممتن، وعقل أكثر إدراكًا لقيمة الصحة ونعمة البشر الطيبين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد