الأكاديمية بين الوهم والحقيقة

mainThumb

10-07-2025 05:09 PM

في لحظة طال انتظارها، جاء الموقف الصريح والواضح من معالي وزير التعليم العالي الدكتور عزمي محافظة، ليكشف ما ظلّ مستورًا لسنوات خلف ستار براق يُدعى "التصنيفات الأكاديمية"، ويُسوّق على أنه المعيار الوحيد لجودة التعليم والبحث العلمي. لقد أسقط الوزير القناع عن منظومة شوهت وجه الأكاديميا، وأفسدت جوهرها، تحت وهم الإنجازات الورقية والمعايير الشكلية، في حين أن الحقيقة كانت عكس ذلك تمامًا: تواطؤ، وتضليل، وصناعة أمجاد زائفة على حساب النزاهة والمصداقية.

ما طرحه الوزير ليس مجرد رأي، بل حقائق دامغة ظلت لسنوات تتداول همسًا في أروقة الجامعات، ويعرفها كل من عاش المشهد الأكاديمي بضمير حي. كثيرون حاولوا دق ناقوس الخطر، حذّروا من تضخم الشكليات على حساب الجوهر، وكتبوا وحاضروا وطالبوا بالإصلاح، لكنهم جوبهوا بالتهميش، والإقصاء، والملاحقة الإدارية. لم تكن مشكلتنا يومًا في قلة الوعي، بل في كثرة المتواطئين، من تغنّوا بالوطنية بينما مصالحهم الخاصة هي المحرّك الأول والأخير.

ولأننا في معظم الأزمات اعتدنا دفن رؤوسنا في الرمال، لجأنا في هذا الملف إلى التذرّع بـ"المصلحة العامة" و"الحفاظ على السمعة الدولية"، وكأن تلك السمعة يمكن حمايتها بالخداع والتزوير! في الحقيقة، كانت هذه الشعارات مجرد ستار هش يُخفي وراءه فشلًا ممنهجًا، وخضوعًا مهينًا لمنظومة فساد أكاديمي تنخر الجسد الجامعي من الداخل. لقد آن الأوان أن نسمّي الأشياء بمسمياتها، وأن نواجه الحقيقة بلا أقنعة: هناك من تواطأ، وهناك من دفع الثمن من سمعته وكرامته ووظيفته، فقط لأنه رفض أن يكون شاهد زور.

ما نُشر في تقرير Nature Middle East أعاد فتح الجرح، لكنه لم يكن مفاجئًا لمن يعرف تفاصيل المشهد. الحديث عن سحب الأوراق البحثية، والنشر في مجلات مشطوبة، والركض خلف تصنيفات مبنية على تضخيم وهمي للإنتاج العلمي، لا يدل فقط على أزمة قيم، بل على انهيار في البنية الأخلاقية للمؤسسات التعليمية. حين تصبح الجامعات مجرد مصانع لإنتاج الأوراق بلا محتوى، فإننا لا نبني نهضة علمية، بل نكرّس الخداع وندمّر ما تبقى من مصداقية.

من هنا، يجب أن نثمّن عالياً موقف وزير التعليم العالي، الذي تحلّى بالشجاعة الكافية ليقول الحقيقة، ويطالب بإصلاح حقيقي لا يعرف المجاملة، ويضع النزاهة الأكاديمية في الصدارة لا في الهوامش. إن إعادة الثقة بالمسار الأكاديمي لن تتحقق بالصمت ولا بتجميل الواجهة، بل بالاعتراف العلني بوجود مشكلة، وبمواجهة الواقع كما هو، لا كما نحب أن يكون. الإصلاح الحقيقي يبدأ من هنا: من الجرأة، من المكاشفة، ومن المحاسبة.

المؤلم أن البعض لا يزال يردّد ببرود "ليس هذا وقته"، وكأن هناك وقتًا مناسبًا لمحاربة الفساد، وكأن انهيار سمعة التعليم وتأكل مصداقيته يمكن تأجيله لحين إشعار آخر! إن هذا هو وقته وأكثر، إن كنا جادين في وقف النزيف، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تعليم عوّلنا عليه أن يكون منارة وطنية وعالمية، فإذا به يتحوّل إلى ميدان للمحاباة والتضليل.

الواقع مرير، لكنه قابل للإصلاح. في الساحة أكاديميون كثر يتمتعون بالكفاءة والضمير، قادرون على حمل مشعل التغيير، إذا توفرت لهم أدوات العمل، وأُزيلت عنهم قبضة الإقصاء والتهميش. المطلوب اليوم ليس فقط تطهير نظام التصنيفات من شوائبه، بل إعادة النظر في كل فلسفة النشر العلمي، وفي الحوافز التي لا تميّز بين من يعمل بإخلاص ومن يتسلق بالكذب، وفي التعليمات التي لا تُحاسب من يخرق أخلاقيات البحث، وكأن الفساد فيها مباح.

يبقى السؤال الكبير معلقًا: إذا كان الأستاذ الجامعي يغش في أبحاثه، فكيف له أن يمنع الطالب من الغش في امتحاناته ومشاريعه؟ فاقد الشيء لا يعطيه، وفساد القمة يستنسخ فساد القاعدة. لا يمكننا أن نطلب النزاهة من طلابنا، ونحن نمنح الجوائز والترقيات لمن تلطّخت سجلاتهم العلمية بالاحتيال.

مرة أخرى، كل الشكر لوزير التعليم العالي الذي بادر بفتح هذا الملف. وآن الأوان أن تتكاتف الجهود نحو إصلاح جذري وشامل، يعيد للجامعة هيبتها، وللبحث العلمي رسالته، ولمهنة التعليم معناها الحقيقي. فإما أن نكون على قدر الأمانة، أو نترك المجال لمن يملكون شجاعة المواجهة ونزاهة المسيرة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد