ترشيد الإنفاق في زمن الضغوط الاقتصادية: ضرورة لا خيار

mainThumb

29-07-2025 10:58 PM

في ظل التباطؤ الاقتصادي العالمي وتصاعد معدلات التضخم، يواجه الأردن والعالم العربي تحديات مالية غير مسبوقة. تشير تقارير البنك الدولي إلى أن متوسط معدل التضخم في المنطقة تجاوز 12% خلال السنوات الأخيرة، بينما ارتفعت نسبة المديونية الحكومية إلى مستويات تتجاوز 90% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض الدول العربية، منها الأردن. في هذا السياق، لم يعد ترشيد الإنفاق مجرد خيار، بل أصبح ضرورة حتمية للحفاظ على الاستقرار المالي والاجتماعي.

الإنفاق غير المدروس ليس مجرد أرقام تُسجّل في التقارير، بل هو انعكاس مباشر لنمط التفكير السائد؛ فثقافة الاستهلاك المفرط تضعف القدرة على مواجهة الأزمات، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول. بناء عقلية مالية واعية، تتسم بالتخطيط والاعتدال، يُعدّ حجر الزاوية في حماية المكتسبات وتجنّب السقوط في فخ العوز أو الاستدانة المفرطة، وهو ما يتطلب إصلاحًا يبدأ من الذهنية قبل الموازنات.

لتحقيق ترشيد فعّال ومستدام، لا يكفي اتخاذ قرارات تقشفية فجائية أو ارتجالية، بل يجب تبني منهجيات عملية متدرجة مثل نموذج "كايزن" الياباني الذي يقوم على التحسين المستمر بخطوات صغيرة وثابتة. هذا النموذج وُظّف فعليًا في وزارة المياه والري في الأردن عام 2021، حيث أُعيدت هيكلة إجراءات الشراء ومتابعة استهلاك الطاقة بطريقة تراكمية، مما أدى إلى خفض التكاليف التشغيلية بنسبة 8% في عام واحد، دون أن يتأثر مستوى الخدمة. مثل هذا المثال يؤكد أن الترشيد لا يعني التقشف، بل يعني الذكاء في الإدارة، والتخطيط طويل المدى.

ضمن السياق ذاته، فإن التحول من الموازنات التقديرية التقليدية إلى موازنات البرامج يشكّل نقلة نوعية في فكر إدارة المال العام. هذه الموازنات لا تركز على بنود الإنفاق كأرقام جامدة، بل تُربط كل نفقة بهدف واضح ونتيجة قابلة للقياس، بما يعزز المساءلة والفعالية. ووفقًا لتقرير ديوان المحاسبة الأردني لعام 2023، فإن تطبيق موازنة البرامج ساعد في رفع شفافية الإنفاق بنسبة تقارب 15%، ووفّر للوزارات أدوات أفضل لتحديد أولوياتها وتقييم أدائها، مما يجعل كل دينار يُصرف خاضعًا لتقييم جدواه الاقتصادية والاجتماعية.

الاقتصاديات الناجحة ليست بالضرورة تلك التي تمتلك الموارد الأكبر، بل هي التي تُحسن استخدامها وتمنع الهدر. في الأردن، يشكل دعم الطاقة وحده أكثر من 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو عبء ثقيل على الموازنة، يُضيّع فرصًا كبيرة للاستثمار في قطاعات أكثر إنتاجية. إن التحدي الحقيقي ليس في تقليل الإنفاق، بل في تحسين كفاءته وتوجيهه نحو ما يُحدث أثرًا ملموسًا في حياة الناس.

ترشيد الإنفاق لا يمكن أن ينجح على مستوى الدولة ما لم يبدأ من الأفراد. وتشير دراسة حديثة صادرة عن مركز الدراسات الاقتصادية في عمّان إلى أن 60% من الأسر الأردنية لا تميز بوضوح بين الحاجات والرغبات في إنفاقها الشهري، ما يؤدي إلى استنزاف الموارد وعدم القدرة على الادخار. إن تنشئة جيل يعي قيمة المال، ويُحسن إدارة دخله، ويتعامل مع الاستهلاك بوعي، هو مفتاح الاستقرار المالي على المدى الطويل.

تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في دعم جهود الترشيد، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. التطبيقات الذكية التي تتابع المصاريف وتُحلل سلوك الإنفاق باتت في متناول الجميع، وهي أدوات فعالة في ضبط الميزانيات الشخصية والعائلية. وعلى المستوى الحكومي، تساهم رقمنة الخدمات في تقليل الهدر وزيادة كفاءة توزيع الموارد، بما ينسجم مع مبادئ الحوكمة الرشيدة.

ومع كل ما سبق، فإن تطبيق هذه النماذج يواجه تحديات واقعية، أبرزها ضعف البنية المؤسسية في بعض الجهات، وغياب ثقافة المتابعة والتحسين المستمر، والمقاومة الاجتماعية لأي تغيير في أنماط الاستهلاك أو أساليب الصرف. لذلك، لا بد من برامج تدريبية متخصصة تبني القدرات الفنية للمسؤولين، وتعزيز الشفافية والمساءلة في كل مستويات الإدارة المالية، إلى جانب إطلاق حملات توعوية تُرسّخ ثقافة الترشيد والانضباط المالي بين المواطنين.

ترشيد الإنفاق ليس مجرد سياسة مالية بل هو انعكاس لنضج اجتماعي ومسؤولية وطنية. المواطن الواعي يدرك أن كل هدر في المال العام سيعود عليه لاحقًا في شكل ضرائب إضافية، أو تراجع في جودة الخدمات، أو تفاقم في الدين العام. كما أن المؤسسات التي تنفق بذكاء هي التي تضمن استدامة عملها وتحافظ على ثقة الناس بها.

إن المرحلة المقبلة ليست فقط فرصة لتعديل الموازنات، بل لإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والدولة في إدارة المال العام. آن الأوان لنغادر عقلية الاستهلاك السهل، ونتبنى فكرًا اقتصاديًا قائمًا على القيمة والنتيجة، على التخطيط لا الارتجال، وعلى المسؤولية لا التبرير. كل خطوة صغيرة نحو الترشيد، كل قرار واعٍ نُعيد فيه ترتيب أولوياتنا، هو بذرة لغدٍ أفضل.

ما نحتاجه ليس فقط إصلاحًا ماليًا بل نهضة في الوعي، تبدأ من دفاترنا الشخصية، وتمتد إلى سياساتنا الوطنية. إنها معركة لا تُخاض بالصراخ، بل بالتغيير الصامت والدؤوب، بالتفكير العميق لا بالتبرير السطحي، وبالإيمان أن ترشيد الإنفاق هو شكل من أشكال الانتماء الحقيقي، والوفاء للأجيال القادمة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد