الهوية الوطنية والجغرافيا

mainThumb

13-08-2025 03:37 PM

الهوية مفهوم ملتبس كل يوظفه كما يحلو له، لتحقيق مآرب خاصة وضيقة لا تتسع لدلالاته المتعددة. يراه أحدهم شديد الصلة بالجغرافيا، ليختزلها في الأرض. ولما كان «الأمازيغ السكان الأولون في المغرب»، فهوية المغاربة أمازيغية، وكل تاريخهم أمازيغي بناء على جغرافية أرضهم، بل إننا نجد من يدافع عن هذه الأطروحة، لتأكيد التميز بالحديث عن «ثقافة الأرض»؟ علمونا في أول درس في التاريخ أن الأمازيغ هم السكان الأولون. وينطلق من هذا الدرس من يرى أن من لا يتحدث الأمازيغية، ولا يفتخر بالهوية الأمازيغية براني عن المنطقة، بل يطالب بعودة هؤلاء إلى شبه الجزيرة العربية، التي جاؤوا منها. فشمال افريقيا للأمازيغ، وغيرهم برانيون غزاة.
لا نرى ذلك فقط لدى من يرى ألا وجود للعرب في المغرب، وكل التاريخ والثقافة والحضارة أمازيغية، ولكن أيضا فيمن يضع خريطة العلم الأمازيغي على شمال افريقيا، مؤكدا ما يدافع عنه الأمازيغيون، ليس فقط ضد الأمازيغيين الأحرار الذين ساهموا في التاريخ العربي الإسلامي في المنطقة، ولكن أيضا ضد المثقفين ذوي الأصول الأمازيغية، الذين يختلفون عن هذه الأطروحة التي تقيدها أسطورة «نوستالجيا الأصول»، في بعدها المتعصب ضد الآخر، والمنغلق على الهوية العرقية.
فكيف يمكن للجغرافيا أن تكون محددَ هوية شعب؟ ليست الجغرافيا ثابتة، ومن يدعي غير ذلك فهو ثابت لا يتحول، لأن لديه عوائق معرفية تحول بينه وبين معرفة الأشياء في واقعها التاريخي. ولعل العائق الأيديولوجي، وهو ضد العلم والواقع، وراء الاعتقاد بأزلية الأشياء، ومطلقها الذي لا يتبدل. فكما أن للتاريخ قطائع، للجغرافيا تبدلات وتحركات، لأن لكل منهما أثرَه في الآخر. إن الخرائط العالمية في الواقع الحالي الذي نعيش فيه دالة على ذلك، وأن ليس لقوم ادعاء أن الأرض لهم دون غيرهم. فالفلاح يدافع عن الأرض التي يحرثها، وقد يسلب جزءا منها من أخوته لتصبح في ملكيته. كانت لراعٍ إبل تسد الفضاء، فأثارت دهشة من عاين كثرة الإبل التي لا تحصى، فسأل الراعيَ عن صاحبها، فأجابه: «مال الله في يدي»، إن المال والأرض لمن يتصرف بهما، وملكيتهما ليست أبدية.

إن من يتأمل تاريخ المغرب وجغرافيته، ضمن الشمال الافريقي، على مرّ الزمن يجد التغيرات والقطائع سائدة. فلم يستقر على حال أبدا، لأسباب كثيرة تبرز في كون هذا المجال لم يعرف وحدة تاريخية أو جغرافية، منذ ما قبل التاريخ. فلم تتشكل فيه دولة مركزية، ولا لغة قومية أو كتابة موحدة. لا خلاف في وجود إثنية ولهجات مختلفة ذات أصل واحد، ولكن لم يتطور أي منها ليغدو لغة واحدة جامعة موحدة. يمكننا أن نتحدث عن ثقافات ولغات تتصل بوثوق بالبيئة الجغرافية التي ظلت منحصرة فيها، والتي ظلت تتبدل وتتغير على مرّ تاريخ ما قبل الفتح الإسلامي. ينقض الأمازيغيون هذه المعطيات، ويستأنسون بآراء بعض الكتاب الأجانب، ومنهم غابرييل كامب، ولكنهم لا يوظفون ما يكتب، إلا ما يتطابق مع رؤيتهم النوستالجية.
يكتب غابرييل كامب في كتابه: «البربر: ذاكرة وهوية»: «يُظهر علم الآثار، كما تُظهر النصوص، أن منطقة شمال افريقيا لم تشهد وحدة سياسية أو ثقافية طوال عصور ما قبل التاريخ، رغم وجود وحدة جغرافية في بلدان الأطلس، وكذلك وحدة عرقية، كما تتجلى في اللهجات البربرية»، لكن تلك الوحدة العرقية لم يتسن لها أبدا أن تحقق وحدة ترابية، أو سياسية إلا في بعض العقود أواخر القرن الثاني عشر تحت سلطان الموحدين». إن وحدة الجغرافيا لم تتحقق إلا مع الموحدين الذين كانوا يودون وصول مصر. ويتساءل عن السبب الحقيقي وراء هذا العجز المتأصل؟ ويجيب: «تبدو الجغرافيا هي وحدها المسؤولة، عما ينسب عادة إلى بني البشر. فليس لبلاد البربر مركز جاذب يقدر على أن يجمع من حوله الأقاليم الواقعة على الأطراف». ويقدم أمثلة لذلك عن المنطقة الزراعية، التي لا تزيد عن شريط ساحلي ضيق، من جهة أولى، وجبال وهضاب عليا من جهة ثانية. كما أن المسافات الكبيرة التي تفصل بين هذين المجالين تجعل كل محاولة لاحتلال مجموع البلاد فاشلة، ولذلك لم تتمكن أي من القوى الأجنبية في بسط سيطرتها على شمال افريقيا، لأن عليها أن تحسب حسابا للخصوصيات الإقليمية فيه، بل أن تحسب حسابا للطباع المتعارضة بين مختلف أقسام المغرب. ويستنتج أن الحدود لم تعرف ثباتا عبر القرون، ويبدو ذلك في كون الأسماء ظلت تتغير بوتيرة التقلبات التاريخية.
ليست الجغرافيا أساس الهوية، إن الهوية تتصل بالإنسان في تفاعله التاريخي والجغرافي مع غيره. قد تبقى رواسب جغرافية وتاريخية سحيقة مثل العرق واللغة، في أي مجال من الأرض. لكن أي عرق ولغته رهين تفاعله الإيجابي مع غيره من الأعراق واللغات في صيرورته التاريخية بغض النظر عن أصول الأرض التي «نبت» منها. فالأرض لمن يعمرها، وجذر الشجرة لمن يعتني به ليعطي الثمار. أما الجذر، في ذاته، فهو آيل للزوال والموت، إذا لم يجد من يوفر له مقومات الحياة من خارجه. أما اتخاذه والجغرافيا للدلالة على الأصل، فهو إنكار للفروع، وللثمار التي تحققت مع الزمن، فتخلقت منها جغرافيات متعددة، وثقافات ذات بعد عالمي وإنساني.
إن الهوية الوطنية المغربية وليدة جغرافية المغرب الحالي، التي تطورت تاريخيا من الأصول الأمازيغية وامتداداتها العربية الإسلامية والإنسانية، وما خلا ذلك «نوستالجيا أصول» سواء كانت إثنية أو دينية، وهي حين تفتخر بالأصل وتمدحه، لا ترثي ولا تتحدث عن واقع جغرافيا المغرب الذي يعاني في البوادي من الفقر والتهميش والعزلة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد