من ركام غزة إلى شوارع المغرب

mainThumb

01-10-2025 11:30 PM

في غزة، لا شيء يشبه الأشياء. هنا، الركام ليس مجرد بقايا جدران… هو شظايا ذاكرة، وحجارة تحمل أسماء أصحابها الذين ناموا تحتها ذات قصف ولم يستيقظوا. هنا، الغبار ليس رماداً عابراً، إنه ستارة كثيفة تخفي وجوه الشهداء لتبقيهم في مقام الغيب، وتصون للموت رهبة الحضور.
في حيّ، شرقي مدينة غزة، تنبض الحكاية كأنها قلب معلق بين السماء والأرض. كاميرا الجزيرة تبث مباشرة، لكن البث ليس مجرد صورة، إنه شريط حياة حيّ يلتهمه الموت لحظة بلحظة. حين صرخ الصوت: «الآن استهداف»، بدا وكأن الزمن انكسر، وتحول كل شيء إلى كادر معلّق بين انفجار وآخر.
رجل مسن، يتشبث بالمايكروفون كأنه يتشبث بالحياة، يرفع إصبعه متحدّياً، وكأن إصبعه وحده يصد الصواريخ. يقول: «لكن إحنا بصمودنا وبإصرارنا سنثبت على هذه الأرض… وسنكون إن شاء الله أوفياء للأرض وللوطن وللدماء.» ملامحه محفورة كالنقوش القديمة، كل تجعيدة على جبينه سطر من كتاب صبر طويل، وكل شعرة بيضاء في لحيته شاهد على حصار ممتد منذ عقود. كان يتحدث بلهجة لم تعرف الانهزام، بملامح من أرهقهم الجوع والليل الطويل، لكنه مع ذلك بدا أوسع من الهزيمة، وأكبر من الخوف.
لم يكن الرجل وحده. امرأة عجوز، عيناها خلف نظارة غليظة، صوتها يتقطع تحت وطأة الألم، لكنها تقول: «راضين في المجاعة وراضين بالهم.» كيف يكون الرضا ممكناً في قلب الجوع؟ وكيف يمكن لإنسان أن يواجه الموت بابتسامة الرضا؟ الجواب أن غزة صنعت فلسفتها الخاصة: فلسفة من يعرف أن الرضا ليس قبولاً بالظلم، إنما ارتقاء بالنفس فوق قيود الجسد. الرضا هنا ليس خنوعاً… هو سلاح يشهر في وجه المعتدي: مهما حاصرتمونا سنبقى أكبر من الحصار.
في الخلفية، تتناثر صور الأطفال كأنها مرايا صغيرة تكشف الحقيقة. طفل يرتدي قميصاً أحمر يقف على أنقاض بيته، يضع يده على خصره بتحد صارخ. طفل آخر يخبئ أنفه خلف كمامة سوداء، يشيح بوجهه عن رائحة الموت، لكنه يبقى واقفاً. الأطفال في غزة لا يبكون طويلاً، فقد اعتادوا أن يتحولوا بسرعة إلى شهود صغار على جريمةٍ كبرى…
غبار يتصاعد، الناس يركضون، الأجساد تلتصق بالجدران المهدمة بحثاً عن مأوى لا وجود له. يصرخ أحدهم: «الآن استهداف جديد.» ما أقسى أن تصبح اللغة نفسها ميداناً للمعركة! الكلمات العادية لم تعد تكفي، فصارت «الآن استهداف» جزءاً من القاموس اليومي للحياة في غزة. لحظة ينطقها المراسل أو المواطن، يتجمد الدم في العروق.
في غزة الصواريخ تمحو البنايات، سحب الدخان تبتلع الأفق، والناس يخرجون من بين الركام كما يخرج الناجون من رواية أسطورية. العبارة الجديدة: «تتناثر فوق رؤوسنا.» واللقطة لا تكذب: الشظايا حرفياً تتناثر، لكنها لا تكسر إرادة الجماهير التي تعود بعد دقائق لالتقاط أنفاسها، لتلملم الأطفال، لتبني خيمة، أو ترفع علماً.
هذه المشاهد ليست مجرد بثّ مباشر. إنها مرآة تكشف عن معنى آخر للوجود… أن تكون في غزة يعني أن تحيا على الحد الفاصل بين الفناء والبقاء. أن تكون في غزة يعني أن تتعلم كيف تربّي أطفالك على الأمل في زمن يبيع الموت في كل ساعة. أن تكون في غزة يعني أن تعرف أن كل صباح هو معركة للبقاء، وكل مساء هو شهادة بأنك ما زلت واقفاً.
الذين يظنون أن القصف سيقتل إرادة غزة يخطئون قراءة التاريخ. غزة لا تهزم بالقنابل. غزة تتقن فنّ تحويل الألم إلى معنى. كل ركام يتحول إلى شاهد، كل شهيد يتحول إلى حكاية، كل بيت مهدوم يتحول إلى خيمة تمتلئ بأصوات الأطفال وضحكاتهم.
وهكذا تبقى غزة، رغم الجوع والموت، أكبر من الحصار. تبقى غزة مدرسة في فلسفة الصمود. تبقى غزة النص الحيّ الذي يكتبه الناس بدمائهم وأصواتهم، ولا يمكن للغبار أن يمحوه.

جيل يكتب شوارع المغرب بأقدامه

في المغرب، لم يعد الشارع صامتاً. في يومٍ عادي من أيلول، انطلقت أصوات الشباب لتعيد تشكيل الخريطة: «الشعب يريد الصحة والتعليم». لم تكن الجملة شعاراً وحسب، إنما كانت صرخة وجود.
خرج المئات، صفوف متراصّة، أذرع متشابكة، وصدور عارية إلا من الإيمان بأن الوطن يستحق حياةً أكثر عدلاً. كان المشهد أشبه ببحر من الوجوه، موجة تندفع نحو الأفق، تهتف بأن التعليم ليس رفاهية، وأن الصحة ليست منّة، وأن الفساد ليس قدراً محتوماً.
أطلقوا على أنفسهم اسم «جيل زد 212»، جيل ولد من رحم الإنترنت، لكن قلبه ظل معلقاً بالأرض. شباب استدعوا بعضهم عبر «ديسكورد»، ليحوّلوا العالم الافتراضي إلى مظاهرات حقيقية. ومن خلف شاشاتهم خرجوا إلى الشارع حاملين همّ أسلافهم: أن يكون الوطن مكاناً صالحاً للحياة، لا مجرد مساحة جغرافية تباع في المزاد.
لكن الشارع لم يترك لهم. هراوات الشرطة كسرت صفوفهم، والاعتقالات التقطت العشرات منهم كما لو كانوا أوراقاً تتساقط في خريف قاس. ومع ذلك، لم تنطفئ الصرخة. لأن الشباب حين يكتشفون قوتهم، يصبح القمع وقوداً إضافياً لغضبهم.
الوجوه في الصور تحكي الكثير: يد ترتفع بعلامة النصر، أخرى تهتف وسط الزحام، عيون تتسع كلما اقتربت الكاميرا، وطفل صغير يرفع قبضته رغم أنه لم يعرف بعد ما معنى الفساد.
إنها قصة جيل لم يعد يخاف. جيل يعرف أن التاريخ يكتب بأصوات الناس لا بصمتهم. جيل حمل على كتفيه سؤالاً واحداً: متى يستمع النظام إلى الشباب بدلاً من أن يقمعهم؟

كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد