55,969 مطلوبًا للتنفيذ القضائي… ماذا وراء المشهد

55,969 مطلوبًا للتنفيذ القضائي… ماذا وراء المشهد

25-11-2025 03:57 PM

من رحم المسؤولية الوطنية، ومن إيمانٍ راسخ بأن الأردن ليس وطنًا نسكنه فحسب بل هو وطنٌ يسكن فينا، جاءت هذه المعالجة؛ لا من باب النقد ولا من باب تسجيل الأرقام، بل من باب الحرص على مستقبل المستوى المعيشي والأمن الاجتماعي للمواطن الأردني، ودعمًا للجهود الحثيثة التي يقودها جلالة الملك في هذه المرحلة العصيبة التي تختلط فيها التحديات بالآمال، والصعاب بالإصرار الوطني على تجاوزها. فكل قراءة اقتصادية متأنية ليست إلا سهمًا من أسهم الوعي التي ترفد مسيرة الدولة، وتساند رؤيتها في حماية المواطن وصون الكرامة الإنسانية.
وعندما تشير البيانات الرسمية إلى وجود 55,969 مواطنًا مطلوبًا للتنفيذ القضائي حتى 12 تشرين الأول 2025، فإننا لا نقف أمام رقم عابر، بل أمام مؤشر حيّ يختزل مشهدًا اجتماعيًا واقتصاديًا متشابكًا. فواحد من كل 150 أردنيًا يواجه اليوم ملاحقة تتعلق بدَين أو شيك أو ذمّة مالية… وهذا الرقم، بظاهره البسيط، يرتفع في عمقه ليصبح علامةً على ضغط معيشي خانق يعبر عن اختلال العلاقة بين دخول الأسر وكلفة الحياة، وعن اقتصاد يشتد فيه الحمل على المواطن حتى بات كثيرون يقفون على حافة العجز قبل منتصف الشهر.
إن المطلوبين للتنفيذ القضائي ليسوا مجرمين، بل هم ضحايا معادلة اقتصادية مختلة؛ ضحايا فجوة آخذة في الاتساع بين ما يجب دفعه وما يمكن دفعه. وكأنّ المجتمع يقف في منتصف جسر مالي يُعاد رسمه كل يوم، بينما تزيد الرياح شدّة وتضيق المساحة الآمنة تحت أقدام الناس. وما هذه الديون إلا ثقوبٌ في الوعاء الاقتصادي الوطني، يُسرَّب من خلالها استقرار الأسر، وتتآكل بسببها الثقة بالقطاع المالي، وتتراجع فيها قدرة الناس على الاستهلاك والإنتاج، فيتحوّل الاقتصاد إلى ساحة دفاع بدل أن يكون ساحة نمو.
ثم تمتد الظلال أبعد من الاقتصاد؛ فكل مطلوب للتنفيذ القضائي هو قصة اجتماعية مكتومة، وصراع عائلي غير ظاهر، وجدارٌ نفسي ينهض بين المرء وأحلامه. وتتشكل من هذه القصص مجتمعة سلسلة ارتدادات تمسّ بنية المجتمع: زيادة التوتر الأسري، تراجع الثقة، تآكل الطمأنينة، وتنامي شعور الخوف من المستقبل، بحيث يصبح الأمن الاجتماعي برمته عرضة لضغط مستمر.
ولعل أخطر ما في المشهد أن يتحوّل المواطن من فاعل اقتصادي إلى مُطارَد اقتصادي، يتّجه نحو تجنّب الالتزامات بدلاً من السعي للإنتاج، كما يتحوّل البدن المنهك إلى مراقبة أوجاعه بدلاً من البحث عن الشفاء.
إن في الأردن اليوم 55,969 قصة لا ينبغي أن تُترك معلّقة، و55,969 مؤشرًا يدعو إلى التفكير لا بالقلق، بل بالمسؤولية؛ مسؤولية حماية المجتمع من الانزلاق نحو ضيق أعمق، ووضع حلول واقعية تنسجم مع روح الرؤية الإصلاحية التي يقودها جلالة الملك، والتي تسعى إلى عبور هذه المرحلة الصعبة بثباتٍ وكفاءة وإيمانٍ عميق بأن هذا الوطن أقوى من كل ما يحيط به.
فما يُطرح هنا لا يُقاس بميزان العدد، ولا يُختزل في متوالياتٍ رقمية، بل هو ادراك ناضج في الوعي الوطني، يكشف ما يتوارى خلف صمت المجتمع من أسئلة الوجود ومعنى الصبر، نحن لا نلج زمن الأرقام بل نعزز روح الوطن، حيث يختبر الأردنُ نفسه بين ما يظهر على السطح وما يعانيه في العمق؛ بين هشاشة الظروف وصلابة ارادة الدولة، وبين خواء الجيب وامتلاء الإرادة.
إننا أمام محاولة لالتقاط تلك النبضة السرّية التي تعبر الجسد الوطني كلّما ضاقت به الظروف، محاولة للقبض على المعنى الذي يجعل هذا البلد يبقى، رغم كل ما يضغط عليه، نسيجًا لا ينفرط، وقوّة لا تنتكس، وأمانًا يليق بمن ينتمون إليه. فالمشهد برمّته ليس وصفًا لواقع اقتصادي، بل تأمّل في معادلة وجودية يتجادل فيها الوطن مع ذاته؛ ليظلّ، وسط فوضى الأسئلة، كما نريده أن يكون: حاضرًا في الوجدان، ثابتًا في المصير، وصامتًا صمت الحكماء الذين يدركون أن البقاء ليس ضجيجًا… بل بصيرة تتشكّل في العتمة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد