هندسة الإرهاب
لم يعد الإرهاب، في الدراسات الأمنية النقدية المعاصرة، يُفهَم بوصفه فعلاً انحرافياً معزولاً صادراً عن فاعلين غير دولاتيين (Non-State Actors)، بل بات يُقرأ كظاهرة جيوسياسية مُصنّعة تخدم، بشكل مباشر أو غير مباشر، المصالح الاستراتيجية للقوى العظمى. خلافاً للسردية السائدة التي تقدم الإرهاب كـ "عدو خارجي" يهدد استقرار الدول الغربية، تكشف الوقائع التاريخية والوثائق الاستخباراتية أن العديد من بُنى التطرف المسلح تشكلت وتطورت نتيجة تدخلات خارجية. فمن خلال توظيف الدين، والسياسة، والإعلام، تم إنتاج سرديات صراع وُجّهت لتحقيق أهداف جيوسياسية محددة.
وعليه، فإن مفهوم "هندسة الإرهاب" لا يمثل مجازاً لغوياً، بل هو توصيف دقيق لعلاقات القوة والمعرفة، كما حللها ميشيل فوكو، حيث تُنتَج المفاهيم والمخاوف الجمعية داخل منظومة هيمنة معرفية تُعيد تعريف "الإرهاب" بما يتوافق مع مصالحها. في هذا السياق، يصبح "الإرهاب" أداة لإعادة تشكيل الخرائط الجيوسياسية، وإدارة الفوضى، وتبرير الحروب الاستباقية، وتغذية الصناعات الأمنية والعسكرية العابرة للحدود.
أولاً: الإطار النظري والمنهجي: هندسة الإرهاب كنموذج نقدي
1.1. الإرهاب في سياق الدراسات النقدية للإرهاب (Critical Terrorism Studies – CTS)
تشكل دراسات الإرهاب النقدية (CTS) تحولًا معرفيًا ومنهجيًا جذريًا في حقل دراسات الأمن المعاصر. لقد نشأت CTS كرد فعل مباشر وضروري على هيمنة دراسات الإرهاب التقليدية (Orthodox Terrorism Studies – OTS)، التي ركزت لعقود على الإرهاب بوصفه فعلاً غير دولاتي، متجاهلةً بشكل ممنهج الدور البنيوي والدولاتي في إنتاج العنف وتوجيهه والتلاعب به خطابيًا.
.1 الخلفية: لماذا ظهرت الدراسات النقدية للإرهاب CTS ؟ نقد المعرفة والسلطة
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، أصبحت صناعة المعرفة حول "الإرهاب" مرتبطة عضويًا بأجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، مما أدى إلى تسيس الأجندة البحثية. وظهرت الدراسات النقدية للإرهاب لتفكيك هذا التداخل عبر استهداف ثلاث ظواهر أساسية:
1.1التحيز المفاهيمي (Conceptual Bias): يتمثل في تعريف الإرهاب بطريقة تستبعد عنف الدولة (State Violence) وعنفها البنيوي، مما يخدم مصالح القوى العظمى التي تحتكر تعريف "العنف الشرعي".
1.2الانحياز البنيوي (Structural Bias): تمويل المؤسسات البحثية وبرامج الدراسات العليا من قبل الحكومات الغربية أو وكالات الأمن، مما يخلق "صناعة إرهاب" هدفها الأول هو خدمة سردية الأمن القومي، كما تشير أعمال ريتشارد جاكسون وجيروين غانينغ.
1.3الاحتكار الخطابي (Discursive Hegemony): تقديم الإرهاب كتهديد ميتافيزيقي (Metaphysical Threat) أو عدمي (Nihilistic) ، مما يهمّش السياقات البنيوية لظواهر مثل الاحتلال، والحصار، والفقر، والسياسات الخارجية التدخلية.
تسعى الدراسات النقدية بالتالي إلى استعادة التوازن المعرفي عبر إعادة النظر فيمن ينتج العنف، ومن يعرّفه، ومن يملك سلطة تحديد "الإرهابي" و "الضحية".
.2 إعادة تعريف الإرهاب: من الفعل إلى النظام السياسي والخطابي
بخلاف) دراسات الإرهاب التقليدية (OTS التي تحصر الإرهاب في سلوك "الآخر العنيف"، تفترض (دراسات الإرهاب النقدية (CTS أن الإرهاب هو مفهوم سياسي وخطابي أكثر منه واقعة مادية بحتة. وقد تجاوزت CTS سؤال "ما الإرهاب؟" إلى سؤال أكثر عمقًا: "من يملك سلطة تعريف الإرهاب؟ ولمصلحة من؟" .
وفق هذا المنظور:
يُنتَج الإرهاب اجتماعيًا: عبر الإعلام والخطاب السياسي الذي يشكل وعي الجمهور بالخطر.
يُستعمَل أيديولوجيًا: لتبرير سياسات معينة وتكريس الهيمنة الجيوسياسية.
يُهندس مؤسسيًا: من خلال تشريعات الأمن القومي والمراقبة الشاملة وتمويل مراكز البحوث التي تعيد إنتاج الرواية المهيمنة.
.3 مركزية هندسة الخطاب: بين إنتاج الجماعات وإنتاج المعرفة
3.1 هندسة الجماعات المسلحة (الاستجابة البنيوية)
ترى الدراسات النقدية للإرهاب أن الجماعات المسلحة غالبًا ما تظهر كـ استجابة عقلانية (Rational Response) لظروف قهرية وانهيارات بنيوية. وتساهم السياسات الدولية – من تدخلات عسكرية، وحصارات اقتصادية، وعنف بنيوي ناتج عن الاستعمار الحديث – في خلق بيئة مثالية لتولّد العنف المضاد. تهدف الدراسات النقدية إلى إجبار الأجندة البحثية على تحليل هذا الدور الدولاتي في إنتاج الظروف البنيوية للعنف.
3.2 هندسة المعرفة وشرعنة العنف المضاد
تؤكد الدراسات النقدية للإرهاب أن المعرفة حول الإرهاب تقوم بوظيفة سياسية خطيرة، إذ يُستخدم خطاب مكافحة الإرهاب لتبرير العنف الدولاتي وتبييضه (White-Washing):
تبييض العنف: يتم تحويل القصف المكثف للمدنيين إلى مفاهيم تقنية مطهرة مثل: "العمليات الجراحية الدقيقة"، "استهداف البنى التحتية للمسلحين"، أو "الحرب الاستباقية".
توسيع الشرعية: يصبح الإرهاب سردية توظَّف لتوسيع القوة والشرعية دون حدود قانونية أو أخلاقية. وقد لخص ريتشارد جاكسون هذه الفكرة بقوله:
"الدولة لا تحارب الإرهاب فقط، بل تعرّفه وتنتجه وتعيد تشكيله بما يخدم مصالحها."
.4 تسليس المفهوم وتسيسه: الإرهاب كأداة للهيمنة
وفقًا لـ غنينغ (Gunning)، فإن أهم مساهمات هي كشف الطريقة التي يُستخدم بها مفهوم الإرهاب كأداة سياسية للهيمنة.
4.1 إضفاء الشرعية على العنف المضاد
يتم خلق ازدواجية معايير (Double Standards) حادة؛ حيث يُعتبر العنف العسكري الدولاتي "مهمة نبيلة" أو "دفاعًا عن الديمقراطية"، بينما يوصف العنف المضاد للدولة بأنه "إرهاب" غير أخلاقي.
مثال: قصف المدنيين في غزة يُقدَّم كـ "دفاع عن النفس" أو "إجراء أمني"، بينما مقاومة الاحتلال تُصوَّر كـ "إرهاب متطرف" (مقارنة نواجه إرهاب الدولة).
4.2 تسيس المفهوم وإعادة إنتاج الأعداء
يتحول الإرهاب إلى تصنيف سياسي ووسم أيديولوجي بدلاً من كونه تحليلاً موضوعيًا للظاهرة. وهذا التسيس يسمح للدول بـ:
الشيطنة والتجريم: شيطنة المعارضين السياسيين وتجريم الحركات التحررية.
إعادة إنتاج التراتبية: ترسيخ تراتبية "الشرق الإرهابي" مقابل "الغرب المتحضّر"، وهو ما يخدم أهدافاً استعمارية جديدة تتماشى مع النقد الذي قدمه إدوارد سعيد في أعماله.
.5 نحو فهم "هندسة الإرهاب" في الإطار النقدي
من منظور الدراسات النقدية للإرهاب (Critical Terrorism Studies -CTS)، فإن مفهوم "هندسة الإرهاب" يتجاوز بكثير مجرد تتبع نشأة وتطور الجماعات المسلحة. إنها عملية مزدوجة ومعقدة لا تنفصل فيها الأسباب المادية عن آليات الشرعنة الخطابية.
.5.1 إنتاج الفاعلين المسلحين (الظروف المادية)
المنظور النقدي يرى أن الفاعلين المسلحين (الجماعات التي تصنف كإرهابية) لا يظهرون في فراغ، بل يتم "هندستهم" وتوليدهم من خلال الظروف البنيوية القاسية التي تخلقها القوى المهيمنة أو الأنظمة القمعية. تشمل آليات الهندسة المادية هذه:
الاحتلالات الطويلة: التي توفر تربة خصبة للمقاومة المسلحة بأشكالها المختلفة.
الحصار الاقتصادي: الذي يدفع المجتمعات إلى الانهيار ويزيد من يأس الأفراد واستعدادهم لتبني العنف.
الانهيارات الدولتية: الناتجة عن التدخلات العسكرية الخارجية أو الفشل الداخلي.
سياسات التهميش البنيوي: حيث يُنظَر إلى العنف كـ رد فعل عقلاني (Rational Response) لغياب العدالة السياسية والاقتصادية.
.5.2 إنتاج المعرفة التي تشرعن الحرب عليهم (البعد الخطابي)
في المقابل، تعمل الدولة وأجهزتها الأمنية على هندسة الشرعية اللازمة لخوض "الحرب الأبدية" ضد هؤلاء الفاعلين المسلحين. هذا البعد المعرفي هو الأكثر أهمية في التحليل النقدي، حيث يتم:
خلط الأمن بالسياسة: تحويل الصراع من مسألة سياسية يمكن حلها إلى تهديد أمني مطلق لا يقبل التفاوض.
احتكار الدول لخطاب "التهديد": تستخدم الدول سلطتها المعرفية لتحديد من هو "العدو"، وتضخيم الخطر (Threat Inflation)، وحصر مفهوم العنف المشروع في يدها.
تبرير الاستثناءات القانونية: يتم تفعيل حالة الاستثناء (State of Exception)، حيث تُعلَّق القواعد القانونية باسم الضرورة الأمنية القصوى، مما يشرعن الممارسات القمعية والانتهاكات خارج إطار القانون.
وبهذا، تصبح "هندسة الإرهاب" وفق الدراسات النقدية ليست فقط هندسة للعنف، بل هندسة للمعنى والشرعية، تُبقي على دورة العنف مُستدامة ومرتبطة بـ المجمع الصناعي العسكري.
إن إدخال منظور الدراسات النقدية يعني الانتقال من رؤية الإرهاب كـ ظاهرة أمنية منفصلة إلى فهمه كـ مفهوم سياسي – خطابي – بنيوي يُستخدم في صناعة الهيمنة. وعليه، يصبح السؤال الجوهري هو: كيف تُنتج الأنظمة السياسية الإرهاب بوصفه خطابًا، وتستخدمه لتبرير ممارساتها؟
1.2. تحليل علاقات القوة والمعرفة: قراءة فوكوية لإنتاج "العدو"
يُعد مفهوم "هندسة الإرهاب" متجذراً بعمق في تحليل ميشيل فوكو لعلاقات القوة والمعرفة (Pouvoir/Savoir)، حيث يرفض فوكو النظر إلى المعرفة (بما في ذلك المعرفة الأمنية) ككيان محايد وموضوعي. يرى فوكو أن المعرفة هي دائمًا نتاج صراع القوى، وتخدم آليات السيطرة وتوليد أنماط محددة من الحقيقة.
.1 الإطار النظري: المعرفة كسلطة لإنتاج الحقيقة
في سياق الإرهاب، يتم إنتاج "معرفة" محددة تخدم هدفين أساسيين في علاقة القوة:
.1.1 خلق "نظام الحقيقة" (Regime of Truth): يتم صياغة خطاب متكامل يصف الإرهابي بأنه "خطر وجودي" (Existential Threat) "عدو غير عقلاني" (Irrational Enemy) أو "متعصب عدمي". هذه المعرفة لا تصف الواقع، بل تُنشئ واقعاً يتم فيه تجميد أي تحليل عقلاني أو بنيوي لدوافع الإرهاب (مثل الاحتلال أو القمع).
.1.2 تبرير القوة الاستثنائية: يُمكّن هذا "العدو المعرفي" الدولة من تفعيل آليات "قوة استثنائية" (State of Exception) ، كما تناولها جورجيو أغامبين متأثراً بفوكو وكارل شميت. هذه الحالة الاستثنائية تبرر:
المراقبة الجماعية الشاملة (Panopticism): تطبيق آليات المراقبة على نطاق واسع داخل وخارج الحدود.
الاعتقال خارج القانون (Extra-Legal Detention): تجميد القوانين المتعلقة بالعدالة وحقوق الإنسان (مثل غوانتانامو).
الحروب الاستباقية: شن هجمات بناءً على "معلومات استخباراتية" قبل وقوع التهديد.
إن "هندسة الإرهاب" هي عملية إنتاج هذا "العدو" المعرفي والخطابي. من خلال تحديد من هو الإرهابي، وما هي دوافعه (دوافع إيديولوجية بحتة)، وكيف يجب محاربته (عسكرياً وأمنياً)، يتم صياغة أجندة تخدم مصالح القوى المهيمنة على حساب أي تحليل نقدي. هذا الإنتاج المعرفي يسبق ويبرر التدخل المادي والانتهاكات القانونية.
.2 آليات السيطرة الفوكوية في سياق مكافحة الإرهاب
يمكن رؤية آليات السيطرة التي حللها ميشيل فوكو متجسدة بوضوح في أدوات وسياسات مكافحة الإرهاب الحديثة. هذه الآليات لا تهدف فقط إلى منع الهجمات، بل تسعى إلى هندسة السلوك وإعادة تعريف الشرعية والقوة داخل الدولة والمجتمع. تتركز أهم هذه الآليات في ثلاثة محاور:
أ. الانضباط (Discipline)
تُستخدم تقنيات مكافحة الإرهاب لفرض الانضباط على المستوى الفردي والجماعي. يتجلى هذا في سن قوانين مكافحة الإرهاب الواسعة النطاق، وتطبيقات المراقبة الإلكترونية الشاملة، والإجراءات الأمنية المشددة في الأماكن العامة كنظام المطارات. تهدف هذه الآليات إلى تطبيع السلوك وإنتاج "أجسام مطيعة" وممتثلة، مستعدة لقبول التنازل عن الحقوق والحريات الأساسية باسم الأمن. يصبح الفرد بذلك مُدركاً باستمرار لرقابة محتملة، مما يدفع إلى الرقابة الذاتية وتكريس سيادة الخطاب الأمني.
ب. السلطة الحيوية (Biopower)
تنتقل الدولة من ممارسة القوة التقليدية إلى ممارسة السلطة الحيوية (Biopower)، التي تُعنى بـ "إدارة الحياة" والسيطرة على السكان ككل. في سياق مكافحة الإرهاب، يتم هذا عبر تصنيف مجموعات معينة (إثنية، دينية، أو جغرافية) كـ "خطر حيوي" يستحق التدمير أو العزل. هذا التصنيف يحوّل الصراع إلى مسألة بيولوجية/وجودية (حماية الحياة من التهديد) بدلاً من كونه صراعاً سياسياً أو اقتصادياً يمكن حله. ويظهر ذلك في تكتيكات مثل الاستهداف بالطائرات بدون طيار (Drone Warfare)، حيث يتم القضاء على الفرد بناءً على تقييم "الخطورة الحيوية" وليس بالضرورة بناءً على الإجراءات القانونية المعتادة.
ج. الاستبعاد المعرفي (Epistemic Exclusion)
تُعد هذه الآلية الخطابية من أهم أدوات الهندسة، حيث تقوم بإدارة مجال المعرفة. يتم تطبيق الاستبعاد المعرفي عن طريق استبعاد أو تهميش التحليلات التي تربط ظاهرة الإرهاب بالسياسات الخارجية الغربية، أو بالاحتلال، أو بالعنف البنيوي. ونتيجة لذلك، يتم "قفل" النقاش في إطار أمني ضيق، يحصره في مسألة دوافع دينية أو أيديولوجية داخلية بحتة. هذا الإقصاء يمنع تفكيك علاقات القوة التي ولّدت الصراع أساسًا، ويُبقي على الشرعية المعرفية بيد الجهات الأمنية المهيمنة.
3.الهندسة الخطابية لإنتاج "الإنسان الحرام"
تصل القراءة الفوكوية أوجها عندما يتم إنتاج فئة من البشر يمكن ممارسة العنف المطلق ضدها دون مساءلة. هذه الفئة هي "الإرهابي"، الذي يصبح نظرياً بمثابة "الإنسان الحرام" (Homo Sacer)، أي الكائن الذي يمكن قتله دون أن يُعتبر قتله جريمة، لأنه مُجرّد من الحماية القانونية والسياسية.
إن هندسة الإرهاب هي عملية مستمرة لـ تجريد فئة معينة من الإنسانية عبر المعرفة المصنّعة، مما يخدم توسيع نطاق القوة الدولتية وسيطرتها على حساب الحرية والعدالة.
.3.1 الإرهاب كـ "صناعة" (Terrorism Industrial Complex): تحليل اقتصادي–سياسي
يُعدّ فهم الإرهاب في إطار الاقتصاد السياسي النقدي خطوة جوهرية لتفكيك آليات اشتغاله الحقيقية في النظام الدولي المعاصر. فالتناول التقليدي للإرهاب باعتباره فعلاً معزولاً يمارسه "فاعل غير حكومي" يُخفي حقيقة أن الإرهاب تحوّل إلى صناعة متكاملة تتشابك فيها شبكات الربح، والعقود الأمنية، وتكنولوجيا الرقابة، مع خطاب الدولة حول الأمن القومي.
ينطلق هذا التحليل من مفهوم المجمع الصناعي العسكري (Military-Industrial Complex -MIC)، الذي حذّر منه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور عام 1961، مؤكداً أن تزاوج المصالح بين القادة العسكريين وشركات السلاح يهدد بتحويل الحرب إلى نشاط اقتصادي قائم بذاته. ومن هذا المنظور، تطوّر ما يمكن تسميته اليوم بـ "مجمع الإرهاب الصناعي" (Terrorism Industrial Complex -TIC)، حيث أصبحت الحرب على الإرهاب مصدر دخل هائل لقطاعات صناعية وأمنية وتقنية تعمل على تأبيد حالة الطوارئ العالمية.
تشير بيانات مشروع "تكاليف الحرب" (Costs of War) بجامعة براون إلى أن إجمالي الإنفاق الأمريكي على الحرب ضد الإرهاب بين 2001 و2023 تجاوز 8 تريليونات دولار. هذا الإنفاق الضخم لم يُنفق فقط على العمليات العسكرية المباشرة، بل شمل تكاليف الرعاية الصحية، وإعادة الإعمار، وفوائد الديون، ليُضخ جزء واسع منه في شركات خاصة ذات طابع ربحي، مما يحوّل الإرهاب إلى سوق مفتوح ومُربِح.
مكونات صناعة الإرهاب: التخصيص والربح من الخطر
تتكون "صناعة الإرهاب" من ثلاثة مكونات رئيسية تحقق أرباحاً هائلة من استمرار حالة عدم الاستقرار:
.1 صناعة الأمن الخاص (Private Military & Security Companies)
شهد هذا القطاع نموًا هائلاً بعد التخصيص الواسع للحرب (Privatization of War). برزت شركات مثل بلاك ووتر/أكاديمي ودينكورب كلاعبين رئيسيين في العراق وأفغانستان.
التوثيق الكمي: وثّقت تقارير أمريكية رسمية أن عقود الأمن الخاص بين 2001–2020 تجاوزت 300 مليار دولار، أي ما يقرب من 12% من الإنفاق على الحرب.
التحليل النقدي: هذا التوسع خلق طبقة جديدة من المرتزقة والمرتزقة المقنّعين المرتبطين بالاقتصاد العسكري، مما يعزز مصالح الشركات في استمرار النزاعات لضمان تجديد العقود المربحة.
.2 صناعة المراقبة والتكنولوجيا (Surveillance & Cyber-Security Industry)
أدى "هوس الأمن القومي" إلى تضخم غير مسبوق في ميزانيات المراقبة والاستخبارات. هذا القطاع هو التطبيق الفعلي لمفاهيم فوكو عن الانضباط (Discipline) والسلطة عبر المراقبة.
التوسع الحكومي: تضاعف الإنفاق على الأمن الداخلي (DHS) في الولايات المتحدة أكثر من 5 مرات خلال عقد واحد.
تخصيص المراقبة: توسعت برامج التجسس الإلكتروني (مثل PRISM الذي كشفه إدوارد سنودن) لتشكل قطاعاً تجارياً ضخماً تدعمه شركات تكنولوجيا كبرى مثل بوز ألن هاملتون (Booz Allen Hamilton) وبلانتير. (Palantir).
التحليل النقدي: هذا التضخم خلق علاقة اعتماد متبادل حيث يتم إنتاج "تهديد" دائم (Threat Inflation) لتبرير استمرار ميزانيات المراقبة والرقابة الشاملة على المواطنين.
ثانياً: الدور الأمريكي: من الاستثمار الاستراتيجي إلى الارتداد (Blowback)
2.1. دراسة حالة: عملية الإعصار (Operation Cyclone) وتداعياتها الممتدة
تُعد عملية الإعصار (Operation Cyclone) التي أدارتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في أفغانستان بين عامي 1979 و1989، مثالاً كلاسيكياً على "هندسة الإرهاب" كأداة للسياسة الخارجية. كان الهدف الاستراتيجي هو استنزاف الاتحاد السوفيتي في "فيتنام سوفيتية" من خلال دعم فصائل "المجاهدين" الأفغان والعرب.
آليات الهندسة:
•التمويل: ضخ مليارات الدولارات (أكثر من 3 مليارات دولار) عبر المخابرات الباكستانية (ISI).
•التسليح: تزويد المقاتلين بأسلحة متطورة، أبرزها صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات.
•التدريب الأيديولوجي: تم استخدام المدارس الدينية في باكستان لإنتاج جيل من المقاتلين ذوي الأيديولوجية الجهادية العابرة للحدود، مما ضمن استمرار الصراع بعد الانسحاب السوفيتي.
الارتداد (Blowback): مصطلح "الارتداد" الذي صاغته وكالة المخابرات المركزية نفسها، يصف العواقب غير المقصودة للعمليات السرية. في حالة الإعصار، كان الارتداد كارثياً:
•نشأة القاعدة: تحول المقاتلون العرب والأجانب الذين دربتهم ومولتهم الولايات المتحدة إلى نواة تنظيم "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن، الذي كان أحد المستفيدين من الدعم.
•هجمات 11 سبتمبر: كانت الهجمات هي التجسيد الأبرز لـ "الارتداد"، حيث استخدمت الشبكات التي نشأت في أفغانستان لضرب الولايات المتحدة في عقر دارها.
•تصدير التطرف: أصبحت أفغانستان وباكستان مركزاً لتصدير الأيديولوجية الجهادية والخبرات القتالية إلى مناطق أخرى من العالم، مما أسس لظاهرة "الجهاد العالمي".
2.2.الحرب العالمية على الإرهاب" (GWOT): تحليل التكلفة البشرية والاقتصادية
بعد أحداث 11 سبتمبر، تحوّلت "هندسة الإرهاب" من عملية سرية وتكتيكية إلى استراتيجية جيوسياسية عالمية ومُعلنة تحت مظلة "الحرب العالمية على الإرهاب" (Global War on Terror -GWOT). كان الهدف المعلن هو القضاء على الإرهاب، لكن التحليل الكمي للنتائج الفعلية يكشف عن تناقض صارخ بين الأهداف المعلنة والتداعيات الواقعية، مما يدعم فرضية أن هذه الحرب عملت كـ "مُحفّز" لإنتاج الإرهاب وتوسعه.
.1 التكلفة الاقتصادية والبشرية المباشرة
تشير البيانات الكمية الموثقة إلى حجم كارثي للتكلفة المباشرة وغير المباشرة التي تحملتها هذه الحرب حتى عام 2023:
التكلفة المالية الإجمالية: تجاوزت النفقات الأمريكية على الحروب ضد الإرهاب 8 تريليونات دولار، وفقاً لبيانات مشروع تكاليف الحرب (Costs of War Project) التابع لجامعة براون. هذا الإنفاق الهائل يُعد الوقود الرئيسي الذي غذّى "مجمع الإرهاب الصناعي" (TIC).
الوفيات المباشرة: تراوحت تقديرات الوفيات المباشرة، بما في ذلك المدنيون والعسكريون والمتعاقدون والصحفيون، بين 940,000 و960,000 شخص. هذه الخسائر الهائلة تمثل ثمن استراتيجية التدخل العسكري الطويل الأمد.
النازحون واللاجئون: أدت هذه الحروب إلى نزوح ولجوء أكثر من 38 مليون شخص من الدول التي شهدت التدخل العسكري المباشر.
.2 دور "إرهاب الدولة الإمبراطوري" في توسيع الظاهرة
تبرز أهمية هذه البيانات عندما تُقارن بالتأثير الفعلي على الظاهرة التي كان الهدف المعلن هو مكافحتها. فبدلاً من القضاء على الإرهاب، عملت استراتيجية GWOT على توسيعه جغرافياً وبنيوياً:
مُحفّز للتطرف: وفقاً لـ مؤشر الإرهاب العالمي (Global Terrorism Index -GTI)، فإن 65% من الهجمات الإرهابية على مستوى العالم بعد عام 2003 وقعت في الدول التي شهدت تدخلاً عسكرياً أمريكياً. هذا التوازي يشير بوضوح إلى أن التدخل العسكري لم ينجح، بل عمل كـ عامل مُحفّز رئيسي.
التربة الخصبة لليأس: يرى التحليل النقدي أن إرهاب الدولة الإمبراطوري (State Imperial Terrorism) –المتمثل في القصف العشوائي، والاحتلال طويل الأمد، والتعذيب الموثق في سجون مثل أبو غريب وغوانتانامو– يخلق بيئة من الظلم، واليأس، وغياب العدالة. هذه الظروف هي التربة الخصبة التي تنمو فيها الأيديولوجيات والجماعات المتطرفة، حيث يُنظر إلى العنف المضاد كشكل من أشكال المقاومة.
وبذلك، فإن الأدلة الكمية تؤكد فرضية هندسة الإرهاب التي تحوّلت من فكرة نظرية إلى واقع استراتيجي، حيث أدت آليات القوة الاستثنائية إلى توليد مزيد من العنف والتطرف، مما يضمن استمرارية حالة الصراع والربح لـ مجمع الإرهاب الصناعي.
2.3. الإرهاب كأداة لإدارة الفوضى: تحليل التدخلات في العراق وسوريا واليمن
في العراق، أدى حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية بعد الغزو عام 2003 إلى خلق فراغ أمني هائل، استغلته تنظيمات مثل "القاعدة في بلاد الرافدين" (التي تحولت لاحقاً إلى داعش). وفي سوريا، أدت سياسة التدخل بالوكالة، التي سعت إلى إسقاط النظام عبر دعم فصائل مسلحة، إلى تحويل الصراع إلى حرب أهلية شاملة، مما سمح بظهور تنظيمات أكثر تطرفاً مثل "جبهة النصرة" و"داعش".
إن هذه التدخلات لم تكن تهدف بالضرورة إلى "خلق" الإرهاب، بقدر ما كانت تهدف إلى "إدارة الفوضى" بطريقة تخدم المصالح الجيوسياسية: إضعاف الخصوم الإقليميين، وتأمين مصادر الطاقة، وتبرير الوجود العسكري طويل الأمد.
ثالثاً: الاستخبارات الإقليمية كشريك في هندسة التطرف
لم تكن القوى العظمى وحدها من شارك في هندسة التطرف؛ بل كانت هناك شبكة معقدة من أجهزة الاستخبارات الإقليمية التي عملت كـ"شركاء لوجستيين" و"ممولين" للجماعات المسلحة، خاصة في سياق الصراع السوري.
3.1. التمويل والتجنيد: دور أجهزة الاستخبارات الخليجية والباكستانية
في أفغانستان، عملت المخابرات الباكستانية (ISI) كقناة رئيسية لتمويل وتسليح المجاهدين، حيث كانت لديها أجندتها الخاصة المتمثلة في إنشاء "عمق استراتيجي" في أفغانستان.
وفي سياق الأزمة السورية، برز دور التمويل الخاص والرسمي من دول الخليج (خاصة قطر والسعودية والامارات) كعامل حاسم في دعم الفصائل المسلحة. وقد أشارت تقارير استقصائية إلى أن هذا التمويل كان يتم عبر قنوات معقدة، تشمل:
•التمويل الخاص: تبرعات من رجال أعمال وشخصيات دينية عبر شبكات غير رسمية، غالباً ما كانت تتغاضى عنها الأجهزة الأمنية.
•التمويل الرسمي: دعم مباشر وغير مباشر لفصائل معينة، بهدف تحقيق توازن القوى ضد النظام السوري وحلفائه (إيران وحزب الله).
هذا التمويل، الذي كان يهدف إلى دعم "المعارضة المعتدلة"، انتهى به المطاف إلى تغذية التنظيمات الأكثر تطرفاً، حيث كانت هذه التنظيمات أكثر كفاءة في استخدام الموارد والسيطرة على الأرض، مما أدى إلى "ارتداد إقليمي" حيث تحولت هذه الجماعات إلى تهديد مباشر للدول الممولة نفسها.
3.2. الحرب بالوكالة في سوريا: تحليل تضارب الأجندات الإقليمية
أدت الحرب بالوكالة في سوريا إلى تحويل البلاد إلى مختبر لـ "هندسة الإرهاب" الإقليمية. فكل قوة إقليمية (تركيا، إيران، السعودية، قطر) دعمت فصائل مختلفة بأجندات متضاربة، مما أدى إلى:
•تفتيت المعارضة: منع ظهور قيادة موحدة للمعارضة، مما سمح للجماعات المتطرفة بملء الفراغ.
•تغذية التطرف: أصبحت الجماعات الأكثر تطرفاً (مثل داعش والنصرة) هي الأكثر قدرة على جذب التمويل والمقاتلين بسبب فعاليتها القتالية.
•الاستنزاف المتبادل: استمرار الصراع لسنوات طويلة، مما أدى إلى استنزاف جميع الأطراف وتحويل سوريا إلى مصدر دائم لعدم الاستقرار الإقليمي والدولي.
رابعاً: إسرائيل كنموذج لإرهاب الدولة المنهجي
إذا كان "الإرهاب الإمبراطوري" هو ممارسة القوة المهيمنة ضد الشعوب باسم "الأمن الدولي"، فإن دولة إسرائيل تمثل تجسيداً فريداً لهذه المعادلة في نسختها الاستعمارية الإحلالية. إن تحليل ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة يفرض علينا توسيع مفهوم "هندسة الإرهاب" ليشمل "إرهاب الدولة المنهجي" (Systematic State Terrorism).
4.1. الإرهاب الاستعماري الإحلالي: تحليل ممارسات الاحتلال في ضوء القانون الدولي
يُعرّف إرهاب الدولة بأنه الاستخدام الممنهج للعنف والتهديد من قبل الدولة لتحقيق أهداف سياسية، وغالباً ما يكون موجهاً ضد المدنيين. في الحالة الإسرائيلية، تتخذ هذه الممارسات أشكالاً متعددة:
•القتل خارج نطاق القانون: عمليات الاغتيال المستهدفة والقتل المفرط للمدنيين خلال المظاهرات والعمليات العسكرية.
•العقاب الجماعي: سياسات الحصار (كما في قطاع غزة)، وهدم المنازل، والاعتقال الإداري، التي تستهدف مجموعات سكانية كاملة.
•التوسع الاستيطاني: مصادرة الأراضي وتشريد السكان الأصليين، وهو ما يُعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
وقد وصفت منظمات حقوقية دولية بارزة، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، الممارسات الإسرائيلية بأنها ترقى إلى مستوى جرائم الفصل العنصري (Apartheid) والاضطهاد، مما يضعها في خانة إرهاب الدولة الممنهج.
4.2. تحليل الخطاب الغربي: تبرير العنف الممنهج وإعادة تعريف الضحية والجلاد
تُعد "هندسة الإرهاب" في السياق الإسرائيلي والفلسطيني مثالاً صارخاً على كيفية عمل علاقات القوة والمعرفة. فالدعم الاستراتيجي المطلق من الولايات المتحدة، والخطاب الإعلامي الغربي المهيمن، يعملان على:
•نزع الصفة الإنسانية عن الضحية: تصوير الفلسطينيين كـ "إرهابيين" أو "دروع بشرية" أو " حيوانات بشرية"، مما يبرر العنف الموجه ضدهم.
•إضفاء الشرعية على الجلاد: تصوير إسرائيل كـ "دولة ديمقراطية تحارب الإرهاب"، متجاهلين البنية الاستعمارية والإحلالية لنظامها.
إن هذا الخطاب يُعيد تعريف "الإرهاب" ليقتصر على عنف الفاعل غير الدولاتي، بينما يتم تبرير العنف الممنهج للدولة كـ "دفاع عن النفس". هذا التلاعب المعرفي هو جزء أساسي من "هندسة الإرهاب"، حيث يتم هندسة الرأي العام الدولي لقبول إرهاب الدولة وتجاهل الأسباب الجذرية للعنف.
خامساً: استنتاجات وتوصيات: نحو نموذج مكافحة الإرهاب النقدي
5.1. الإرهاب كأصل استراتيجي: خلاصة براغماتية
يتضح من التحليل الموسع أن الإرهاب، في كثير من صوره الحديثة، هو نتاج هندسة مقصودة بقدر ما هو نتيجة تفاعلات اجتماعية واقتصادية. القوى الكبرى والإقليمية تتبع نموذجاً براغماتياً في التعامل مع الجماعات المسلحة، حيث يتم النظر إليها كـ "أصول استراتيجية" (Strategic Assets) يمكن توظيفها لتحقيق أهداف محددة. وبعد انتهاء الحاجة إليها، يتم التخلي عنها أو إعادة تصنيفها كـ "منظمات إرهابية" لتبرير التدخل ضدها. هذه الآلية المزدوجة تؤكد أن تفكيك ظاهرة الإرهاب يتطلب تفكيك البنية الجيوسياسية التي تستثمر فيه.
تنفيذ أنشطة شبابية وتنموية بعدد من المحافظات
الخشمان يثمن زيارة رئيس الوزراء لجناعة وحديقة الجندي
مهم بشأن مخزون القمح والشعير وأسعار الخبز
هل يصل سعر تذكرة حفل بيسان إسماعيل بالأردن لـ 400 دينار
جرش تكرم المنتخب الوطني لقصار القامة
دعوة لضرورة الحفاظ على البيوت القديمة وتأهيلها بالكرك
حزب الله يؤكد اغتيال رئيس أركانه
شؤون اللاجئين والإغاثة الإسلامية تطوران برامج صحية بالأردن
توجيه مهم من التربية لمديري المدارس
ماذا تعرف عن حالة عدم الاستقرار الجوي القادمة للمملكة
تزوجت نفسها والآن تطلب الطلاق .. تفاصيل ستصدمك
التمديد في الوظيفة العامة .. يعزّز نمو الطحالب
وظائف شاغرة في الحكومة .. التفاصيل
توضيح آلية اختيار المكلَّفين لأداء خدمة العلم
فرصة مهمة للباحثين عن عمل .. الأسماء والتفاصيل
الأوقاف تطلق جائزة التميز المؤسسي الثانية
أكثر من 470 ألف لاجئ وطالب لجوء في الأردن
أغنى رجل في العالم لا يملك قصراً .. أين يسكن
إسرائيل تُصعّد… والأردن يضع النقاط على الحروف
انتحار أشهر توأمتين في ألمانيا بعد مسيرة فنية حافلة
مهم من الأمانة بشأن الإنارة والكاميرات الجديدة
أويس مخللاتي يوضح حقيقة اعتناقه المسيحية بعد جدل واسع



