موازنة 2026: بين براثن الدين وانفجار النمو!

موازنة 2026: بين براثن الدين وانفجار النمو!

23-11-2025 01:12 AM

تطرح موازنة الأردن لعام 2026 فرصة تاريخية للخروج من إطار “الرشد المالي” التقليدي نحو هندسة “موازنة التحوّل الاقتصادي”، وهو انتقال لم يعد ترفاً بل ضرورة وجودية في ظل تباطؤ النمو، وتضخم فاتورة الدين، وتقلص قدرة المالية العامة على الاستجابة للصدمات. فبعد عقود من إدارة الإنفاق وفق نموذج التحكم بالعجز والدين، أصبح واضحاً أن ضبط الأرقام دون تغيير بنية الاقتصاد لم يعد قادراً على خلق النمو أو توسيع القاعدة الإنتاجية أو توليد فرص العمل. وقد ظهر هذا الخلل بوضوح في المعادلة الأردنية خلال السنوات الماضية، حيث ظل متوسط النمو الحقيقي قريباً من 2% فقط، مقابل بطالة تتجاوز 21%، ومديونية عامة تلامس 114% من الناتج المحلي، ما يشير إلى أن الانضباط المالي وحده لم يعد قادراً على تحريك الاقتصاد نحو مستويات أكثر ديناميكية.
إن جوهر التحدي لا يكمن في حجم الموازنة أو مستوى الإنفاق، بل في نوعية الإنفاق وارتباطه بمسار التحول الاقتصادي، إذ تشير البيانات إلى أن أكثر من 85% من النفقات الجارية تُخصص للرواتب وفوائد الدين والدعم، في حين لا تحظى المشاريع الرأسمالية إلا بنحو 12–14% من إجمالي النفقات، وهي نسبة غير كافية لتغيير بنية الاقتصاد أو تحفيز الاستثمار. ويؤدي هذا الخلل إلى استمرار ما يمكن تسميته “حلقة الاعتماد المالي”، حيث تصبح الموازنة أداة إدارة يومية قصيرة الأجل، بدلاً من أن تكون محفزاً استراتيجياً للاقتصاد.
إن التحول نحو “موازنة اقتصادية” يتطلب عدة تغييرات جوهرية تبدأ بإعادة هيكلة أولويات الإنفاق العام. فبدلاً من التركيز على تخفيض العجز عبر تقليص النفقات الجارية، ينبغي إعادة توجيه جزء من هذه النفقات نحو الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، والتكنولوجيا، والاقتصاد الأخضر، والبنية التحتية ذات الأثر المضاعف على النمو. وتشير دراسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى أن كل دينار يُضخ في الاستثمارات الرأسمالية عالية القيمة قد يرفع النمو بما نسبته 0.3 إلى 0.5 نقطة مئوية، في حين أن خفض النفقات الجارية لا يخلق أي أثر اقتصادي إلا على ورق الحسابات المالية.
ويتطلب هذا التحول كذلك تحديثاً جذرياً في أدوات إدارة المال العام، عبر تبني موازنة قائمة على الأداء والنتائج، وليس فقط على بنود الإنفاق. فالدول التي حققت قفزات اقتصادية خلال العقدين الماضيين—مثل إستونيا، سنغافورة، ورواندا—اعتمدت أنظمة مالية تربط التمويل بالنتائج، وتضع مؤشرات قياس واضحة للإنتاجية، وتعيد هيكلة الإنفاق وفق مردوده وليس حجمه. وفي الحالة الأردنية، يحتاج هذا النهج إلى تحويل المؤسسات الحكومية نحو الرقمنة الكاملة ورفع النضج الرقمي المحاسبي، بما يعزز جودة البيانات المالية ويزيد دقة اتخاذ القرار. وتشير الأدلة إلى أن ارتفاع النضج الرقمي في المؤسسات يخفض الهدر بما نسبته 10–20%، ويزيد فعالية إدارة الموارد العامة بنسبة تصل إلى 30%.
ولتحقيق موازنة اقتصادية لا بد أيضاً من دمج سياسات التحول الإنتاجي مع سياسات المالية العامة، بحيث تخدم الموازنة أولويات النمو، لا أن تعمل بمعزل عنها. ويشمل ذلك تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص في قطاعات الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والصناعات الدوائية والغذائية، إضافة إلى تحفيز الاستثمار عبر تبسيط الإجراءات وتقليل الكلف التشغيلية التي تعد من الأعلى في المنطقة. فكل زيادة بنسبة 1% في الاستثمار الخاص ترفع النمو الاقتصادي بنسبة 0.2% وفق بيانات السنوات الأخيرة، وهو ما يعكس أهمية إعادة صياغة منظومة الحوافز الاستثمارية وربطها بالقطاعات الأكثر قدرة على خلق القيمة.
ولا يكتمل التحول دون إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمواطن والقطاع الخاص، عبر رفع مستوى الشفافية في الموازنة وتوفير بيانات مالية دورية دقيقة وسهلة الوصول. فقد بيّنت تقارير الشفافية الدولية أن الدول التي تتمتع بموازنات شفافة ترتفع فيها المشاركة الاقتصادية والاستثمار المباشر بما يتراوح بين 15 و30% مقارنة بالدول ذات الإفصاح المحدود. وهذا يعيدنا إلى جوهر العلاقة بين النضج الرقمي المحاسبي وجودة المعلومات المالية، فكلما ارتفعت جودة البيانات ارتفعت جودة القرارات الاقتصادية، وهو ما ينعكس مباشرة على فعالية السياسات المالية وقدرتها على تحفيز التحول.
إن موازنة الأردن 2026 يجب أن تكون نقطة الانطلاق نحو نموذج مالي جديد يعيد تعريف دور الدولة الاقتصادي من مشغل ومنفق إلى ممكن ومحفز ومحرك للتحول. وهذا يقتضي قرارات جريئة تعالج جذور الاختلال، وتعيد ترتيب الأولويات، وتحوّل الموازنة إلى أداة إنتاج لا أداة إدارة. فالمسار الحالي، رغم انضباطه الرقمي، غير قادر على إنتاج اقتصاد قوي أو تنافسي. أما التحول المطلوب، فهو الذي يجعل من الموازنة محركاً للنمو، وجاذباً للاستثمار، وممكناً للابتكار، ومؤسساً لبنية اقتصادية أكثر مرونة وقدرة على الصمود.
وبينما تتجه المنطقة بأكملها نحو نماذج اقتصادية جديدة تعتمد التكنولوجيا والاقتصاد الأخضر والاندماج في سلاسل القيمة العالمية، لا يملك الأردن ترف الانتظار. فالتحول ليس خياراً، بل مساراً إلزامياً لمواجهة تحديات البطالة والدين وضعف الإنتاجية. وإذا استطاعت موازنة 2026 أن تعكس هذا التحول بوضوح، فستكون خطوة أولى نحو اقتصاد أكثر ديناميكية، ونحو دولة قادرة على تحويل الانضباط المالي إلى قوة اقتصادية لا عبئاً على النمو.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد