ترامب… والقضاء الدولي

ترامب… والقضاء الدولي

22-11-2025 04:00 PM

في زمن تُقاس فيه هيبة الدول بعدد التغريدات لا بعدد المبادئ، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يضيف رقمًا قياسيًا جديدًا إلى موسوعة العبث السياسي: فرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court – ICC).
نعم… عقوبات على القضاة، لا على الذين يُشتبه بأنهم ارتكبوا جرائم حرب.
ولم لا؟
ففي عهد ترامب أصبحت الأمور تُدار بمنطق بسيط جدًا:
“إذا لم يُعجبني القانون… أعاقب القاضي.”

فُرضت العقوبات على قضاة من بينهم القاضي الفرنسي Nicolas Guillou وعدد من القاضيات اللواتي ـ في عالم طبيعي ـ يجب أن يُعلّق على صدورهن وسام الشجاعة القضائية. لكن في عالم ترامب، لا شيء طبيعي.
الرجل الذي استطاع أن يحوّل السياسة الأميركية إلى برنامج “واقع” تلفزيوني حيّ، قرر أن العدالة الدولية خطيرة جدًا… وتحتاج إلى كتم صوتها فورًا.

ترامب الذي يرفع شعار America First وجد صيغة جديدة للشعار:
Justice Last.
فطالما العدالة الدولية تجرؤ على النظر في ملفات تخصّ حلفاءه، فالحل بسيط: خنق المحكمة، وتجفيف حسابات قضاتها، وتهديد دورها العالمي، ثم اتهامها بأنها “منحازة”.
هي العبقرية الترامبية التي تقول:
"أُعاقبك… ثم أقول إنك متحيز ضدي."

القاضي Guillou قال إنه بات خارج النظام المصرفي العالمي.
وللحظة، تخيّلت المحكمة الجنائية الدولية وكأنها فرع صغير لمصرف محلي أغلقه ترامب لأنه لم يعجبه طابور الانتظار.
إنها سريالية سياسية كاملة:
أكبر قوة في العالم تُعاقب قضاة لأنها تخشى من قلم… لا من صاروخ.

أما الأمم المتحدة، فقد استيقظت متأخرة كعادتها، وبدأت ببثّ بيانات “القلق العميق”.
الأمم المتحدة تشعر بالقلق…
تمامًا كما يشعر المارة بالقلق عندما يرون حفرة في الشارع منذ عشرين عامًا:
قلق بلا جدوى، بلا حل، بلا تأثير.

تداعيات القرار قد تُعيد كتابة القاموس السياسي العالمي.
فالدول الصغيرة ستفهم الرسالة فورًا:
لا تلجؤوا إلى العدالة الدولية إلا إذا كانت مناسبة للأقوياء.
والدول المتوسطة ستبدأ بالحسابات: هل يستحق اللجوء إلى ICC خطر الغضب الترامبي؟
والدول الكبرى الأخرى ستفرك أيديها بسرور:
"إذا كانت أميركا نفسها تعاقب القضاة… فما الذي يمنعنا نحن؟"

عند هذه النقطة، تنهار المدرسة البنائية في العلاقات الدولية انهيارًا أخلاقيًا تامًا.
تلك المدرسة الرقيقة التي تحدثت عن “القيم المشتركة” و“أخلاقيات المجتمع الدولي” تجد نفسها اليوم تواجه ترامب، الذي أثبت عمليًا أنّ الأفكار لا تصنع الواقع…
بل تصنعه التغريدات، والعقوبات، والضغوط، والمزاج الشخصي لرئيسٍ لا يحتمل فكرة وجود سلطة أعلى من سلطته.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بكل سخرية مرة:
هل يستطيع القانون الدولي النجاة من رئيس يرى العالم كملعب غولف خاص، يديره وفق قواعد يضعها ثم يغيّرها ثم ينكر أنه وضعها أساسًا؟

ختامًا، ما نعيشه ليس مجرد أزمة قضائية، بل حلقة جديدة من العرض الترامبي الكبير—عرضٌ تُعاقَب فيه العدالة، ويُهدَّد فيه القضاة، وتتحول فيه المحكمة الجنائية الدولية إلى “خطر استراتيجي”، بينما يتصدّر من يهدد الأمن والسلم الدوليين المسرح بابتسامة عريضة.

وفي عالمٍ كهذا، لا يمكن للقانون الدولي إلا أن يرفع يديه للسماء ويقول:
“اللهم إن هذا من فعل ترامب، فأرنا فيه عجائب قدرتك ”



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد