تطوير المناهج الجامعية: نحو تعليم أكاديمي ومهني متكامل

تطوير المناهج الجامعية: نحو تعليم أكاديمي ومهني متكامل

24-11-2025 09:39 PM

في عصر يتسارع بتقنيات مذهلة وتحديات متجددة، تجد الجامعات نفسها في سباق محموم لملاحقة واقع يتغير بسرعة تفوق أحياناً قدرتها على التكيف. في هذا السياق، لم تعد المناهج الجامعية في كثير من دولنا مجرد خطط تدريس، بل تحولت في أحسن الأحوال إلى وثائق جامدة، لا تلامس احتياجات سوق العمل المتسارعة، ولا تلبي طموحات جيل يطمح أن يترك أثراً. لذلك، لم يعد تطوير هذه المناهج ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة استراتيجية وطنية، ورهاناً على مستقبل الأمة.

تشكل المناهج التعليمية في الجامعات حجر الزاوية في بناء الكوادر المؤهلة، فهي الوعاء الذي يصوغ العقول، ويصقل المهارات، ويعد الأجيال لمواجهة تعقيدات المجتمعات وتقلبات الاقتصاد. ولكي تؤدي هذه المناهج دورها المنشود، لا بد أن تنبثق من رؤية متكاملة، تجمع بين الأصالة الأكاديميـة والابتكار المهني، وتزاوج بين العمق النظري والمرونة التطبيقية. ولا يمكن لهذه الرؤية أن تتحقق بجهود فردية أو آراء منعزلة، بل تحتاج إلى مؤسسية تشاركية، تقوم على لجان تطوير موثوقة تضم أكاديميين ذوي سمعة علمية راسخة وخبرة بحثية وتدريسية حقيقية، قادرين على صياغة محتوى رصين ومترابط، إلى جانب مهنيين من قطاعات اقتصادية مختلفة يمتلكون معرفة مباشرة بمهارات السوق وما يحتاجه الخريجون فعلياً، فتتكامل بهذه الشراكة الخبرة النظرية مع التجربة العملية.

ولضمان عدم بقاء المناهج حبيسة الأطر النظرية، وهو أحد أبرز أمراض التعليم العالي في منطقتنا، لا يكفي أن يكون القائمون على المحتوى من أصحاب الخلفية الأكاديمية وحدها، بل لا بد من إشراك خبراء الصناعة وأصحاب التجربة المهنية الواقعية، بحيث تتحول المادة الجامعية من "معلومات تُقرأ" إلى مهارات تُمارس. فالمشكلة ليست فقط في "المحتوى المكتوب"، بل في "المحتوى المُدرَّس". وهنا تُخلق فجوة واضحة بين التخطيط والتنفيذ، إذ كثيراً ما يبدو المنهاج جيداً على الورق لكنه لا يُترجم إلى تعليم فعلي داخل القاعة الدراسية. كثيراً ما نجد من يقدم المادة بعناوينها العامة دون أن يغوص في التفاصيل التطبيقية التي تشكل جوهر التعلم الحقيقي. العناوين يقرأها الجميع، لكن تحويلها إلى مهارات يمتلكها الخريج لا يقدر عليه إلا من جمع بين عمق أكاديمي وخبرة ميدانية. ولهذا يصبح تقييم الأداء التدريسي قائماً على مدى نجاح المدرس في بناء مهارات حقيقية لدى الطالب، لا على مجرد مدى تغطيته للعناوين النظرية.

ومن هنا تأتي أهمية انتقال المناهج من النمط السردي التقليدي إلى منهجية تقوم على التفاعل والممارسة. فالتركيز على المخرجات المهارية والعملية يجب أن يكون محور تصميم المنهاج. ولتحقيق ذلك، لا بد من تضمين مشاريع تطبيقية ودراسات حالة واقعية، مع تمارين محاكاة تُقارب بيئة العمل الحقيقية. من خلال هذا الأسلوب، ننتقل بالطالب من متلقٍ سلبي إلى شريك فاعل في عملية التعلم. هذا النهج لا يطور المهارات التقنية فحسب، بل يعزز لديه القدرة على التفكير النقدي والعمل الجماعي والابتكار وحل المشكلات.

ولأن المناهج ليست نصوصاً ثابتة بل وثائق حية قابلة للتحديث، فإن المراجعة الدورية للمحتوى، والتغذية الراجعة المستمرة بين أعضاء اللجان، واعتماد أحدث الدراسات والتقنيات، تشكل مساراً ضرورياً للحفاظ على جودة المنهاج. وتجربة "جامعة البلقاء" في تطوير مناهج الدبلوم مثال محلي واضح، حيث تم توحيد المناهج على مستوى الوطن، ومراجعتها من قبل لجان مختصة جمعت الأكاديميين والمهنيين، ما أسهم في رفع جودة المخرجات وتوحيدها.

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الجهود الكبيرة والمحترمة التي تقوم بها هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضمان جودتها في الأردن، سواء في تطوير الإطار الوطني للمؤهلات، أو في مشروع التسكين، أو معالجة فجوة الـGap بين مخرجات البرامج ومتطلبات المهن، إضافة إلى تحسين معايير Quality Assurance على مستوى البرامج والمؤسسات. ورغم كل هذا التقدم المؤسسي المهم، فإنّ رأيي هو أن هناك ما تزال فجوة ملموسة بين التطوير النظري والواقع العملي، إذ لا تزال بعض الجامعات تتعامل مع هذه الجهود بوصفها متطلبات شكلية أكثر منها أدوات تغيير حقيقي، ما يبطئ التحول نحو مناهج مهنية حديثة قادرة على خلق أثر حقيقي في مخرجات التعليم.

وعلى الصعيد الدولي، نجد أن دولاً مثل فنلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية نجحت لأن لجان تطوير المناهج فيها لجان دائمة تضم علماء وخبراء من القطاع الخاص، تراجع المناهج بشكل مستمر وتربطها مباشرةً بمتطلبات اقتصاد الابتكار. وفي ألمانيا، يقوم النظام التعليمي على شراكات استراتيجية بين الجامعات والمصانع، حيث يقضي الطلاب جزءاً من دراستهم في بيئات عمل حقيقية، مما يجعل الخريج الألماني مثالاً عالمياً للجودة والكفاءة. وفي العالم العربي، خطت الإمارات والسعودية خطوات متقدمة عبر إنشاء مجالس وطنية لتطوير المناهج وربطها برؤى التنمية مثل "رؤية 2030"، ما رفع من جاهزية خريجيهما لسوق العمل بشكل ملموس.

ويظل العامل الأهم هو وجود رؤية موحدة على مستوى الجامعة بأكملها، وليس على مستوى الأقسام فقط. فهذه الرؤية تضمن توحيد التطوير وتكامله بين التخصصات، وربط البرامج التعليمية بالأهداف الوطنية للتعليم العالي والتنمية الاقتصادية. وبهذا لا تعمل كل كلية بمعزل عن الأخرى، بل ضمن منظومة واحدة منسجمة وواضحة الاتجاه.

وأخيراً، فإن المنهاج الجامعي ليس مجرد محتوى يُحفظ، بل هو منظومة متكاملة تُعدّ الجيل القادم ليقود التغيير، لا أن يتبعه. إنه يستهدف بناء الشخصية المفكرة والمبدعة، والقادرة على التعامل مع عالم لا يعترف إلا بالأقوياء بالعلم والمهارة. وعندما يبنى المنهاج على أساس أكاديمي رصين، ويمتزج بخبرة مهنية حقيقية، ويخضع لتقويم مستمر، فإنه يتحول إلى أداة لإنتاج كفاءات مستقبلية قادرة على الإبداع والتكيف وصنع الفارق في المجتمع وسوق العمل.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد