السردية الأردنية… حين يتحول الصوت الوطني إلى مشروع بناء

السردية الأردنية… حين يتحول الصوت الوطني إلى مشروع بناء

24-11-2025 10:02 AM

حين يقول ولي العهد إن “توثيق السردية الأردنية يهمني شخصيًا ومهم لأجيال المستقبل”، فهو لا يكشف فقط عن اهتمام شخصي، بل يضعنا أمام مسؤولية وطنية عميقة: كيف نصون قصتنا؟ وكيف نورث أبناءنا رواية متماسكة لا تضيع تفاصيلها بين زحام الأحداث وسرعة الزمن؟

السردية ليست شعارًا ولا رفاهًا ثقافيًا. إنها ذاكرة دولة، توازن بين جهد مؤسساتها وأحلام شعبها، وتحفظ قيمة الإنسان الأردني في مسيرته الطويلة نحو الاستقرار والتنمية. لكنّ هذه السردية، رغم قوتها، ما تزال بحاجة إلى إعادة جمع وتدوين وتوثيق، لأن جزءًا كبيرًا من الحكاية موجود في ذاكرة الأردنيين أكثر مما هو محفوظ في أرشيف.

تنفيذ رؤية ولي العهد يبدأ من احترام هذه الذاكرة. من الاقتراب من التفاصيل الصغيرة التي صنعتنا: جندي يكتب رسالته الأولى من الحدود، معلم يؤسس صفًا في مدرسة بعيدة، موظف يحمل ملفات الدولة جيلاً بعد جيل، أمٌ تروي لأحفادها مراحل بناء البلد. كل هذه صور لا ينبغي أن تبقى عابرة. تحويلها إلى محتوى موثّق هو الخطوة الأولى في بناء السردية الأردنية المعاصرة.

ويحتاج التنفيذ إلى تركيز أعمق في الإعلام؛ أن يتحرر من إيقاع الخبر العابر ويتجه نحو إنتاج الروايات. حوارات تعيد الاعتبار لخبرات الناس، أفلام قصيرة توثق التحولات الكبرى، تقارير تستعيد بدايات المؤسسات والمشاريع التي صنعت الفرق. الإعلام القادر على سرد القصة بضمير وحرفية، هو الذراع الأولى في مشروع السردية.

كما تحتاج المدارس والجامعات إلى أن تعلّم الطلاب تاريخ بلدهم بطريقة تجعلهم يرونه بعيونهم لا عبر صفحات جامدة. المناهج مطالبة بأن تقدّم القصة الوطنية بلغة حيوية، تربط الماضي بالحاضر، وتمنح الطالب فرصة أن يفهم أدوار أبطاله الحقيقيين: المعلم، المزارع، الطبيب، والجندي. هذه ليست إضافات تعليمية، بل جزء من بناء الوعي القومي الذي تريده رؤية ولي العهد.

وتتدخل التكنولوجيا بدورها كأداة للحفظ والتوثيق، من أرشفة الوثائق والصور ومواد الإعلام القديم، إلى المنصات الرقمية التي تقدم الرواية الأردنية بلغة العالم. فالسردية اليوم لا تُكتب فقط بالحبر، بل بالصوت والصورة والتحليل والقصص القصيرة التي تستقر في ذاكرة الأجيال.

وربما أهم خطوة في التنفيذ هي إشراك المجتمع نفسه. فالسردية ليست مشروعًا حكوميًا فقط، بل حكاية يكتبها الناس. عندما يشارك الأفراد بصورهم القديمة، بذكرياتهم، بحكايات آبائهم وأجدادهم، يصبح الوطن كتابًا مفتوحًا لا يمكن أن يستبدله أحد برواية مختلفة.

لهذا، فإن كلام ولي العهد ليس أمنية، بل خارطة طريق. سرديتنا لن تُكتب إذا بقينا ننتظر وثائق رسمية أو مادة جاهزة. ستُكتب عندما يشعر كل أردني أن ما عاشه جزء من الحكاية الكبرى، وأن المشاركة في توثيقها واجب وطني مثل حماية حدودها تمامًا.

السردية الأردنية مشروع بناء… بناء وعي، وبناء ثقة، وبناء مستقبل. وإذا أردنا أن نرى الأردن كما نؤمن به، علينا أن نروي قصته كما يجب، وأن نترك للأجيال القادمة رواية أقوى من النسيان، وأعمق من التشويه، وأجمل من أن تُحكى بصوت غير صوت أصحابها

ولي العهد ملهم لأن الشباب يشعرون دائمًا أن هناك من يراهم، ويصغي لطموحاتهم، ويؤمن بقصتهم قبل أن تكتمل. يمنحهم مساحة ليكونوا جزءًا من الصورة، لا مجرّد متلقّين لها. لا يأتي إلهامه من الكلمات وحدها، بل من حضوره القريب، ومن وضوحه، ومن إصراره على أن تكون الطاقات الشابة شريكًا أصيلًا في بناء الدولة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد