لا تقلب الصفحة
رأيتها أول مرة في قاعة مزدحمة، تجلس على طرف الصف وكأنها تحاول أن تتفادى الأضواء. كانت متوسطة القامة، شديدة الجمال، يضيع جسدها في معطف فضفاض أبيض، وعيناها تتنقلان بين الوجوه بحذر يشبه حذر الطيور في موسم الصيد. لم يكن هناك ما يربطني بها سوى الفضول، لكنه تضاعف حين لاحظت كيف يتجه نظرها نحو الباب بين الحين والآخر. ثم دخل هو، ضامر الجسد، كتفاه مائلتان، نظارة أكبر من ملامحه، وسترة جلد قديمة، لا يبدو عليه أنه قادر على شدّ الانتباه، ومع ذلك تبادل معها نظرة سريعة ثم أعرض. كان يتحرك ببطء، يمر بين الحاضرين كما تمر النملة على حافة الطاولة، غير مرئي إلا لمن يبحث عنه فعلاً. مرّت الأمسية ببرود، ولم يقترب منها حتى النهاية، حين وقف أمامها للحظة، همس بكلمة قصيرة، ثم غادر وهو يحمل حقيبته بخفة وكأنه لم يأتِ أصلاً. اكتفت هي بهز رأسها كمن يسلّم سرّاً قديماً لصاحبه.
في اليوم التالي، وأنا أجلس في المقهى أكتب، دخلت هي وجلست على الطاولة المقابلة. كانت تتحدث في الهاتف، نبرة صوتها مائلة للسخرية، وكأنها تلهو بما تسمع: «غداء؟ في المول؟ لكن عندي موعد مع صديقاتي بالليل». ثم ضحكت وأضافت: «أوكي، تعال خذني إذا تحب». قالتها ببرود امرأة تعرف كيف تُبقي الآخر معلقاً، وكأنها وحش صغير يلهو بدمية من قش. وبعد نصف ساعة، دخل هو. بدت العيون هذه المرة حادة أكثر، وعلى طرف فمه ارتسمت نصف ابتسامة صغيرة غامضة لا تكشف عن النوايا كاملة لكنها تلمّح إلى ثورة مكتومة. وقف أمامها وقال وهو ينحني قليلاً: «جاهزة؟»، فهزّت رأسها ووقفا معاً. خرجتُ بعدهما بخطوات مترددة، كان يمشي إلى جانبها بهدوء وذراعاه تتحركان بخفة، بينما ينمو الصمت حوله كأنه معتاد على أن يترك الفراغ يتكلم نيابة عنه. ومع ذلك، كانت تبتسم أكثر مما ابتسمت بالأمس. وفي لحظة عابرة التفت نحوها والتقت عيونهما، لم أسمع ما قال، لكن ملامحها تغيرت فجأة، وكأنها اكتشفت أن هذا الرجل الذي بدا ضئيلاً وبلا تأثير يخفي تحت مظهره الهادئ شيئاً قادراً على جرّها إلى عمق أبدي لا مفر منه. تابعت خطواتهما حتى اختفيا وسط الزحام، وأنا أفكر أن بعض الحكايات الكبرى تبدأ من نظرة لا يأخذها أحد على محمل الجد، وأن الورق الرقيق حين يقرر أن يجرحنا بحافته لا يترك لنا خياراً سوى أن ننزف حينَ نقرر أن نقلب الصفحة.
هذا المشهد العابر يعيد إلى الذاكرة رواية جين أوستن الخالدة «كبرياء وهوى»، حيث تبدأ الحكاية أيضاً بنظرة عابرة تنطوي على حكم متسرع وسوء تقدير. إليزابيث بينيت تنظر إلى السيد دارسي في اللقاء الأول وترى فيه رجلاً متكبراً متعالياً لا يستحق الالتفات، بينما ينظر هو إليها بوصفها فتاة عادية تفتقر إلى الجاذبية الاجتماعية التي تجذبه. لكن مع مرور الصفحات يتكشف العمق المختفي وراء المظاهر: فدارسي الذي بدا مغروراً متجهم الوجه يخفي قلباً رقيقاً ووفاءً نادراً، وإليزابيث التي بدت ساخرة متمردة تخفي وراء جرأتها عطشاً عميقاً للحب والاحترام. إن العلاقة هناك تنمو عبر الحوار والمواجهة والرسائل والاعترافات، بينما هنا تتأسس على لغة أخرى: الصمت والنظرات العابرة والتواطؤ غير المعلن، حيث الكلمة التي لا تُقال تصبح أثقل من كل العبارات، وحيث الفراغ بين جملتين يخلق حكاية كاملة.
وإذا كانت رواية أوستن قد انتهت بزواج إليزابيث ودارسي، أي بتصالح الكبرياء مع الهوى وانتصار العاطفة على العقلانية، فإن هذه الحكاية لا تسعى إلى تلك المصالحة. هنا لا نجد زفافاً ولا حلاً اجتماعياً ولا خاتمة تريح القارئ، بل نهاية مفتوحة على المجهول، على الشارع المزدحم والفراغ الذي يبتلع خطاهما، على شعور أن العلاقة لم تبدأ لتكتمل بل لتبقى معلقة في فضاء من الاحتمالات. وبينما حبست أوستن بطليها داخل قفص الزواج كي تطمئن قلوب القراء، فإن هذه الحكاية تختار أن تتركهما يختفيان في الزحام بلا قفص، بلا عقد، بلا وعدٍ بالاستقرار. إن دارسي وإليزابيث تحولا عند أوستن إلى مثال عن الحب الذي يصالح المجتمع مع نفسه، أما هذان الغريبان فهما مثال عن الحب الذي يفرّ من كل إطار، الحب الذي يولد في العتمة ولا يحتاج إلى شاهد، الحب الذي يذوب مثل دخان في هواء المدينة ولا يترك أثراً سوى ارتباكنا نحن الذين رأيناه للحظة عابرة ثم فقدناه. وهكذا تتحول المقارنة إلى انعكاس مضاد: ففي حين منحت أوستن نهايتها عزاءً للقلب، يترك هذا المشهد القلب معلقاً على حافة سؤال لا جواب له، كأن الحب أحياناً أجمل حين يظل ناقصاً، وأشد حضوراً حين يتوارى بين الخطى والضجيج. وربما كان أجمل حب هو الذي لا نعرف أبداً كيف انتهى. وهذا ما يُسمى النهايات المفتوحة في الأدب الذي يشترك به القارئ في التأليف والتأويل؛ بلا راحة حتمية يفرضها عليه الكاتب السلطوي والذي لا يسمح للحب أن يغير مجرى نزاعاته الشخصية وشيء من عقد الماضي العقلاني الحزين.
عباس: على حماس الالتزام بالدولة الواحدة والسلاح الواحد
مدعوون للتعيين في الاقراض الزراعي .. أسماء
59 شهيداً في غزة بنيران الاحتلال منذ الفجر
استحداث تخصصات جديدة وتنظيم فعاليات بعدد من الجامعات
الوزيرة فارسين: الاعتراف بدولة فلسطينية ليس رمزيا
ليفربول يضم المهاجم السويدي إيزاك
ترامب: إسرائيل تكسب الحرب وتخسر الرأي العام
جبهة دبلوماسية أردنية مصرية لوقف الكارثة في غزة
وزارة المياه تبحث تعزيز التعاون الدولي ضمن اتفاقية هلسنكي
بلاغ عن حقيبة ملقاة قرب دوار صويلح والأمن يوضح
انطلاق مهرجان التنوع الثقافي التراثي الأول بالزرقاء
جرائم الاحتلال وفشل مشروعه في غزة
دعوة لمواطنين بتسديد مستحقات مالية مترتبة عليهم
آلاف الأردنيين مدعوون للامتحان التنافسي .. أسماء
مثول عدد من الأشخاص بينهم النائب اربيحات أمام مدعي عام عمان
تفاصيل مقتل النائب السابق أبو سويلم ونجله
وظائف حكومية شاغرة ودعوة للامتحان التنافسي
أول رد من البيت الأبيض على أنباء وفاة ترامب
عمّان: انفجار يتسبب بانهيار أجزاء من منزل وتضرر مركبات .. بيان أمني
رسمياً .. قبول 38131 طالباً وطالبة بالجامعات الرسمية
الأردن يبدأ تطبيق الطرق المدفوعة نهاية 2025
قبل صدور نتائج التوجيهي اليوم .. تعرّف على كيفية حساب المعدل
مقتل نائب سابق ونجله في مشاجرة شمال عمّان
ادعاءات باطلة من لندن في قضية إربيحات
وظائف شاغرة في سلطة المياه .. تفاصيل