تركيا بين الأولويات الداخلية والحسابات الإقليمية

mainThumb

07-09-2025 09:59 AM

من الملاحظ أن وتيرة «العملية السلمية» المسماة رسمياً «تركيا من دون إرهاب» بين الحكومة التركية وعبدالله أوجلان زعيم «حزب العمال الكردستاني» قد تباطأت، كما انحسرت موجة التفاؤل التي كانت على إثر تصريحات كل من زعيم «الحركة القومية التركية» دولت بهجلي، وأوجلان بخصوص ضرورة إنهاء العمل المسلح، وحل حزب العمال.
فمنذ البداية لم تكن هناك مبادرة سياسية متكاملة حقيقية معلنة؛ وإنما الموضوع برمته لم يخرج عن دائرة التفاهمات الأمنية والتسريبات المنتقاة بعناية تخدم كل طرف. فالحكومة من جانبها، ومعها بهجلي نفسه باعتباره في تحالف مع الحزب الحاكم (تحالف الجمهور)، تعاملت مع الموضوع بوصفه مشروع «تركيا خالية من الإرهاب»؛ هذا في حين أو أوجلان تحدث، وما زال يتحدث، بعبارات عاطفية عامة مبهمة عن المجتمع الديمقراطي، والمستقبل الديمقراطي للشعب الديمقراطي.
أما تشخيص الحل المطلوب أو المقترح للقضية الكردية في تركيا فهو رغم أهميته وضرورته غائب عن جدول أعمال الطرفين؛ الأمر يفسح المجال أمام سائر التكهنات والتفسيرات، وينذر بانهيار هذه العملية في أي لحظة؛ وهو الأمر الذي لا يتمناه كل من يريد الخير للشعب التركي بكل مكوناته.
ولكن مثل هذا الانهيار لو حدث، لن يكون الأول، وكان آخرها قبل نحو عقد بعد اتصالات ومبادرات ولقاءات بين الحكومة التركية وحزب العمال، تمحورت حول امكانية الوصول إلى حل سلمي ينهي الصراع والاضطراب في الداخل التركي، وذلك عبر الوصول إلى حل واقعي مقبول للقضية الكردية في تركيا. وليس سراً أن هذه القضية لها انعكاسات وتفاعلات في الواقع الإقليمي، خاصة في سوريا والعراق. هذا مع العلم أن الأمور في العراق قد استقرت نسبياً بعد التفاهمات والاتفاقيات التي تمت بين قيادة إقليم كردستان العراق والحكومة العراقية من جهة والحكومة التركية من جهة ثانية. بينما الأمور ما زالت عائمة متداخلة في سوريا نتيجة الأوضاع المستجدة في البلد بعد سقوط سلطة آل الأسد ومجيء إدارة جديدة برئاسة أحمد الشرع. هذا إلى جانب تعقيدات الوضع الكردي بفعل تعدد وتنافس الفاعلين، وتداخل الأجندات الوطنية مع الإقليمية والدولية.
من اللافت الذي يستوقف في هذا السياق هو أن الحكومة التركية لم تطرح بعد وجهة نظرها حول معالم الحل المقترح للموضوع الكردي في تركيا في إطار وثيقة وطنية تقدم للبرلمان ويطلع عليها الشعب التركي بكل مكوناته. فهذا الموضوع كبير، وهو قضية وطنية عامة لا تخص الحكومة التركية وحدها، أو حزب العمال أو أوجلان وحدهما، بل تخص الدولة التركية ككل، والقوى السياسية الفاعلة داخل البرلمان وخارجه، كما تخص الترك والكرد وغيرهما من المكونات المجتمعية في تركيا.
كانت التوقعات تدور حول امكانية التوصل السريع إلى اتفاق بين الحكومة التركية وأوجلان بعد المؤتمر الذي عقده حزب العمال بتاريخ 5-7 أيار/مايو 2025، وأعلن عن تخليه عن السلاح، واتخذ قراراً بحلّ نفسه؛ ومن ثم كانت خطوة تشكيل اللجنة البرلمانية الخاصة بمستقبل حزب العمال وأعضائه، وهي اللجنة التي تشارك فيها جميع أحزاب البرلمان ما عدا «الحزب الجيد»؛ كما كانت الخطوة الرمزية التي تمثّلت في قيام أعضاء في حزب العمال بأحراق أسلحتهم في منطقة السليمانية. كل هذه الخطوات أوحت بامكانية تسارع خطوات السير نحو الحل. ولكن يبدو أن العملية قد واجهت كبحاً بفعل أسباب غير معلنة.
ما يستنتج من التصريحات والمواقف ذات العلاقة بهذا الموضوع، ومما يمكن أن يقرأه المرء بين السطور هو أن الثقة غائبة بصورة عامة بين الأطراف المختلفة المعنية بالعملية المذكورة؛ سواء بين الحكومة وحزب العمال، أم بين الحكومة والمعارضة، أو بين الأجنحة المختلفة ضمن حزب العمال نفسه. فكل طرف له هواجسه وحساباته الحزبية والداخلية والإقليمية، ويبحث عن الحل، أو ربما عن شبيه الحل، الذي يتناسب مع حساباته ويتكامل معها.
اليوم هناك حديث من مصادر حكومية بأن السقف الزمني للوصول إلى اتفاق هو نهاية العام الجاري. وهذا السقف هو نفسه المحدد لتطبيق اتفاق العاشر من آذار/مارس 2025 الذي تم التوقيع عليه من كل الرئيس الشرع ومظلوم عبدي قائد قسد بخصوص دمج قسد والإدارة الذاتية في منطقة شمال شرق سوريا ضمن مشروع الدولة السورية؛ وذلك بعد الوصول إلى حلول أو توافقات بخصوص مختلف الموضوعات. هل هذا التطابق الزمني هو مجرد صدفة؟ أم أنه تمهّل انتظاراً لتبلور النوايا الأمريكية، والتأكد من مصداقية حزب العمال، ومتابعة التطورات الداخلية على صعيد مواقف الأحزاب التركية واستعداداتها للانتخابات المقبلة، ومحاولة استشفاف نوعية تكتيكاتها وتوجهاتها التحالفية.
ما يستنتج من تصريحات المسؤولين الأتراك هو أن سياسة الحكومة التركية في ميدان التعامل مع ملف أوجلان وحزب العمال، تتمركز حول فكرة امكانية التأثير في قسد من خلال أوجلان؛ الأمر الذي سيؤثر من جهته، وفق تقديرات المسؤولين عن الملف، في عملية التفاوض بين قسد والإدارة السورية.
هذا في حين أن الحل الأمثل سينجز إذا تمّ فك الارتباط بين مباحثات إدارة دمشق مع قسد، ومفاوضات الحكومة التركية مع أوجلان. فهذه الخطوة ستفتح الآفاق أمام الإدارة السورية، في حال توفر الرغبة والإرادة للتعامل مع الموضوع الكردي السوري بجدية على قاعدة احترام الحقوق ضمن إطار وحدة الشعب والوطن. وتقوم تركيا من ناحيتها بالانفتاح على كردها، وتعمل على معالجة قضيتهم بصورة عادلة ضمن إطار الوحدة المجتمعية والجغرافية، وذلك بوصفها قضية وطنية تستوجب الحل.
هناك جملة عوامل متداخلة متفاعلة تؤدي إلى كبح العملية السياسية بين الحكومة التركية وأوجلان، وهي العملية التي يطلق عليه رسمياً اسم: «تركيا من دون إرهاب» أو «تركيا خالية من الإرهاب»؛ وهذا الاسم بحد ذاته يثير التساؤلات، ولا يساعد في تعزيز الثقة، ولا يساهم في فتح الآفاق أمام امكانية تحقيق اختراقات إيجابية نوعية في سياق التعامل مع الموضوع الكردي في تركيا. وهو موضوع قديم جديد، برز مع تفاقم النزعة القومية في آواخر العهد العثماني، ومع بدايات العهد الجمهوري؛ الأمر الذي أدى إلى حدوث صدامات عنيفة، أسفرت عن المجازر والتدمير والتشريد، وهي المآسي التي ما زالت تركيا المعاصرة تنوء تحت ثقلها رغم المحاولات الكثيرة التي أراد أصحابها تجاوز سوداوية الماضي والتوجه نحو المستقبل برؤية تفاؤلية تطمئن الجميع.
أما المحاولة الراهنة فهي الأخرى تواجه صعوبات كثيرة بفعل عوامل عديدة من بينها العلاقات المتشنجة إلى الحد الأقصى بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، والحزب الجمهوري المعارض، وذلك على خلفية إثارة قضايا الفساد سواء في البلديات أو المؤتمرات الخاصة بهذا الأخير. ففي أجواء هذا التشنج، باتت قضية حزب العمال جزءاً من المنافسة الحزبية والحسابات الانتخابية، فكل طرف يستعد للاستحقاقات القادمة وعينه على أصوات الناخبين الكرد التي تصب غالبيتها عادة لصالح حزب المساواة وديمقراطية الشعوب. وقد بينت نتائج الانتخابات السابقة باستمرار أهمية هذه الأصوات ودورها في نجاح هذا الطرف أو ذاك في البلديات الكبرى خاصة اسطنبول. كما أن تحالفات الكتل البرلمانية داخل البرلمان لا تستطيع تجاهل أصوات كتلة الحزب المذكور الكبيرة نسبياً الشعوب؛ وهذا كله يؤدي إلى التريث لمعرفة ملامح العلاقات المستقبلية بين الموالاة والمعارضة، واحتمالات تبدل قواعد اللعبة الانتخابية.
إلى جانب هذا العامل، هناك عامل آخر يتعلق بالوضع الداخلي لحزب العمال نفسه؛ فليس سراً وجود قيادات على علاقة ودية مع النظام الإيراني، ويبدو أن هذه القيادات قد وافقت في بداية الأمر تحت تأثير ضغط أنصار أوجلان، وضغط الضربات الإسرائيلية الساحقة التي تلقاها النظام الإيراني وأذرعه في المنطقة. غير أنها عادت للتحرك مجددا بالتناغم مع المحاولات الإيرانية لإعادة ترتيب الأوراق، وترميم الأذرع المعطوبة. وهذا فحواه عرقلة مساعي التخلي عن السلاح وحل الحزب بناء على طلب أوجلان وموافقة المؤتمر الـ 12 لحزب العمال الذي انعقد في أيار/مايو 2025.
من جهة أخرى، تراقب الحكومة التركية عن كثب التحولات المتلاحقة في تصريحات المسؤولين الأمريكان، كما تتابع المواقف والتحركات الإسرائيلية، لمعرفة اتجاهات مسارات الصراع الإقليمي والدولي على المنطقة وعلى سوريا تحديداً. فإسرائيل لا تخفي اهتمامها بالجنوب السوري، وحرصها على أن يكون منطقة منزوعة السلاح، هادئة وفق حساباتها الأمنية؛ بل تعلن من حين إلى آخر عدم قبولها بأي خطر محتمل قد يهددها مستقبلاً من الجانب السوري. والولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل من دون أي تردد أو تحفظ، تتابع الوضع السوري وأوضاع المنطقة بالتفصيل الدقيق. كما تسعى روسيا بالتفاهم مع إسرائيل، وحتى مع الأمريكان، للاحتفاظ بدور لها في الواقع السوري، وضمان مصالحها الحيوية، وقد خطت خطوات لافتة في هذا المجال على صعيد اتصالاتها مع القيادة السورية الجديدة وعلى أعلى المستويات.
وفي الوقت ذاته، تعلم تركيا أن سوريا تشكل عمقاً استراتيجياً مهما بالنسبة للأمن الخليجي، لا سيما السعودي، وهي مطلعة على تفاصيل الجهود الاستثمارية السعودية في سوريا.
كل ذلك يدفع بالحكومة التركية إلى التريث، والتمسك بأوراقها التفاوضية ومنها الورقة الكردية، وورقة العلاقة المتميزة مع روسيا رغم موقعها الهام في الأطلسي.
ولكن يبقى السؤال الأهم: هل تتحمل تركيا المزيد من التأجيل والتسويف في ظروف داخلية اقتصادية وسياسية واجتماعية ليست على ما يُرام؟
أم أننا سنجد في المستقبل انفراجات وتوافقات داخلية؛ انفراجات تفتح الطريق أمام تركيا لتؤدي دوراً إقليمياً هاماً، يؤهلها لأن تكون قوة مؤثرة حتى على الصعيد الدولي؟
*كاتب وأكاديمي سوري



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد