حين يبتلعنا التطور ويمضغنا المشاهير

mainThumb

09-09-2025 10:02 AM

أريد أن أستهل مقالي اليوم بعدة أسئلة تبدو بسيطة، لكنها في جوهرها معضلات كبرى: لماذا خُلق الإنسان بقدرة بصرية لا تتجاوز بضع عشرات من الأمتار، بينما عقله قادر على أن يتخيل المجرات والكواكب البعيدة؟ لماذا لا يمتلك الإنسان أذناً تستطيع أن تلتقط ترددات أدق من أصوات الحشرات أو أبعد من الموجات الكونية؟ ولماذا لا تمتد يده إلى أكثر من طول جسده بمرات عديدة، ما دامت حاجاته المادية والرمزية لا تنتهي؟ هل هذه المحدوديات في الجسد والحواس مجرد صدفة بيولوجية أم أنها حكمة مقصودة لتضع العقل في مواجهة مستمرة مع النقص، وتدفعه بالتالي إلى البحث والتجريب والابتكار؟
لقد قيل إن العقل البشري غير محدود، لكن الواقع يبرهن أن هذا العقل نفسه محكوم بإيقاع الزمن والتجربة. يوفال نوح هراري، يذكّرنا بأن الخيال والمرونة هما ما جعلا الإنسان يقود الثورات الصناعية والتكنولوجية والفكرية، لكن هذه الثورات عبر التاريخ لم تحدث فجأة، بل كانت دائماً تنمو ببطء، تمنح البشر فرصة لاستيعابها. فالثورة الزراعية استغرقت آلاف السنين حتى تستقر في نمط حياة الإنسان. الثورة الصناعية امتدت على مدار قرنين كاملين قبل أن تتجذر في المدن والمجتمعات. حتى الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، ومن ثم إلى الحداثة، لم يكن إلا تراكماً متدرجاً للمعرفة، بحيث يتواءم الإنسان مع التحولات دون أن يُسحق وعيه.
أما اليوم، فالتطور لم يعد يمنحنا ترف التدرج. منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن، ومع تسارع الثورة الرقمية، أصبح الإنسان كمن استيقظ فجأة في زمن آخر، أشبه بقصة أصحاب الكهف حين وجدوا أنفسهم في عصر يختلف كلياً عن الذي ناموا فيه. تساءلتُ كثيراً: لماذا يبدو الناس بعد عام 2019 أقل حماسة، وأكثر عرضة للملل والكآبة؟ ربما لعبت جائحة كورونا دوراً في تسريع هذا الشعور الجماعي، وربما أثارت اللقاحات وما رافقها من جدل موجة من الشك. لكن في العمق، المشكلة أعمق من أي مؤامرة. هي مرتبطة بالصدمة التي يتعرض لها الإنسان حين يُجبر على استيعاب مئة عام من التطور خلال عقد واحد فقط.
لقد أصبحت المدن أسرع من ساكنيها، تسبقهم بعماراتها الشاهقة وبناياتها التي تنبثق من الفراغ. يستيقظ الإنسان المعاصر كل يوم ليواجه تطبيقات جديدة، اكتشافات متلاحقة، وأنماط عيش تتغير في غضون أسابيع. وبالإضافة إلى هذا كله، أصبح يلتقي بالآلاف من الغرباء يومياً، لا وجهاً لوجه بل عبر الشاشات. هذه الفيديوهات القصيرة التي نستهلكها يومياً تضعنا في مواجهة مع عدد لا يُحصى من الأفراد، كل واحد منهم يريد انتباهنا، نصيحتنا، إعجابنا، أو مجرد لحظة من وقتنا. لكن العقل البشري لم يُصمم ليستوعب هذا الكم من الغرباء بفردانيتهم الضخمة دفعة واحدة.
تخيل أن تسير وسط 12 مليون إنسان في ساحة واحدة، وكل دقيقة يوقفك شخص ليحكي قصته، أو يجرّك آخر إلى بيته ليعرض تفاصيل عائلته، أو تدعوك امرأة فجأة لمشاهدة كيف تفرك قدميها بالصابون كي تقنعك بشراء منتج! هذا هو المشهد اليومي في الفضاء الرقمي: استنزاف لا ينتهي لانتباهنا، استهلاك لمشاعرنا، سرقة لطاقتنا. وهنا المفارقة: كنا نظن أن كثرة المعرفة والخيارات ستجعلنا أحراراً، فإذا بنا نصبح أسرى لوهم احتياجنا لها.
ولعلّ الظاهرة الأكثر سخرية ومرارة هي تضخم عدد المشاهير. إذ أصبحوا أكثر عدداً من «حبات السمسم» في العالم مجتمعة، حتى بتنا نخشـى أن يأتي اليوم الذي يهرع فيه المشاهير بأنفسهم لملاحقة الناس العاديين من أجل التقاط صورة تذكارية معهم. لقد انقلبت المعادلة: بدلاً من أن يكون المشهور استثناءً، صار العادي هو الاستثناء النادر. إننا نعيش داخل مجلة ضخمة من المنوعات، تتجاور فيها نصائح التغذية مع أخبار الطلاق والزواج، مع تحليلات السياسة والاقتصاد، بينما يضيع الإنسان الفردي في هذا الضجيج، كما يضيع الحبر في محيط من المياه المالحة.
لقد عرف أجدادنا التطور كتجربة طبيعية، متدرجة، منحتهم وقتاً لتكوين هوية متماسكة ومعنى واضح للحياة. أما نحن، فنواجهه كعاصفة هوجاء تقتحم وعينا دفعة واحدة، فتفتت هويتنا وتجعلنا كائنات مجوفة يصفر فيها الفراغ. ثمة وشيجة متواصلة بيننا وبين كل شخص غريب يأخذ جزءاً من انتباهنا، وكل محتوى عابر يسرق شظية من وعينا، حتى نصحو بعد سنوات لنكتشف أننا لم نعد نتعرف على ذواتنا.
النهاية التي لا مفر منها أن الإنسان، رغم خياله ومرونته، لا يستطيع أن يعيش في زمن مسرَّع إلى هذا الحد. وإذا لم نجد وسيلة لإبطاء الإيقاع، أو إعادة صياغة علاقتنا بالتطور، فقد نصبح في المستقبل مجرد أشباح رقمية، بينما تضيع هويتنا الإنسانية في زحام لا يرحم. سيأتي يوم ربما يتساءل فيه أحفادنا: كيف عاش أولئك الذين تحولوا من بشر من لحم ودم إلى صور عابرة في أرشيف رقمي لا ينتهي؟ لا أحد يدري كم من البطء نحتاج من أجل استعادة الدهشة الإنسانية التي تعيدنا إلى المرح القديم، غير الاستهلاكي مع مدة انتهاء صلاحية أطول نسبياً مما اعتدنا عليه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد