نباهة نبيهة عبود المستقبلية

نباهة نبيهة عبود المستقبلية

07-12-2025 12:57 PM

عُنيتُ في إطار مشروعي في الأقلمة السردية بتتبع أصول الأدب في نماذج المرويات القديمة، بحثا عن السبل التي بها تشكلت تقاليد السرد العربي القديم بعد احتكاك الأقوام العربية المهاجرة من جنوب الجزيرة العربية احتكاكا لغويا وأدبيا وتجاريا بحضارات وادي الرافدين وبلاد الشام. ولقد وجدت في كتاب العلَّامة العراقي الكبير جواد علي «المفصل في تاريخ العرب» مرجعا لا غنى عنه في المساعدة في تقصي تلك الأصول التي صارت بمرور الزمان بمثابة قواعد، عنها تفرعت تقاليد نظم الشعر ونسج السرديات العربية. وكان «كتاب التيجان في ملوك حمير» لوهب بن منبه نموذجا دالا على إتباع المؤلف العربي القديم الأصول الأدبية في تدوين أخبار السابقين. هذه الأصول التي يشكك غالبية الغربيين مستشرقين ومنظرين بوجودها، متصورين أنَّ أيَّ حديث عنها – خارج نطاق الأدبين الإغريقي والروماني- هو حديث خرافة أو أسطورة.
وعلى الرغم من أنَّ دراسات الأقلمة في الغرب تصادت مع نظريتي التناص والحوارية، وأعادت بذلك الاهتمام إلى الأصول ودور المؤلف في إتباع التقاليد، لكنها بقيت مقيدة في حدود النظر المتحيز للأصول الإغريقية والرومانية، متجاهلة بعنت واضح ما لآداب الحضارات الشرقية وبخاصة الأدب العربي من تاريخ طويل في الارتكان إلى الأصول وتطوير التقاليد وإنتاج قوالب أدبية، تجسّدت في مصادر هي عبارة عن نماذج، لا يمكن لباحث رصين أن ينكرها أو يتغاضى عن أهميتها.
ومن المتقدمين في دراسة الأصول الباحثة العراقية نبيهة عبود، وتعدُّ سبّاقة بتخصصها في تحقيق النماذج البدئية المدونة على أوراق البردي أو البرديات، وبخاصة برديات العرب المسلمين الأوائل. وكل بردية عبارة عن وثيقة أدبية أو تاريخية أو إدارية أو اقتصادية، دوّن فيها العرب مسائل الحياة في مرحلة البعثة النبوية من دين وأدب وتاريخ، واحتفظوا بها في شكل صحائف أو سجلات. وهذا ما دار حوله كتابها «الإسلام الأول وأخباره في البرديات العربية» وبالرغم من مضي سبعين عاما على نشره باللغة الانكليزية، فإن ترجمته لم تتم إلا مؤخرا بتعريب سلام خير بك وصدرت عن المركز الأكاديمي للأبحاث ببيروت.
ومن اللافت للنظر في هذا الكتاب تأسف المؤلفة على ما لدى الغربيين والعرب من تحيز في إخفاء أو تقليل شأن الثقافة والإنجازات العربية التي كانت موجودة عشية الإسلام، وكذلك العوامل الإيجابية لما يسمى بأيام الجاهلية التي عدّوها أمية وبدائية ووثنية في وقت كانت فيه الكتابة العربية الشمالية قد تطورت قبل ثلاثة قرون من مجيء الإسلام. واعتمادا على هذا المأخذ، لاحظت نبيهة عبود أن ابن خلدون وقع في المبالغة في بدائية العرب قبل صدر الإسلام والعصر الأموي، كونه اشتغل بظلال معنى كلمة (عبرة) في كتابه المهم «العبر وديوان المبتدأ والخبر» ومقدمته الكبرى، (فاستنفد بذلك دروس التاريخ على مختلف مستويات العمل والفكر الإنساني بما في ذلك فلسفة التاريخ) ص29.
وما تراه نبيهة عبود هو أنَّ تلك المرحلة المتقدمة من التاريخ العربي لم تكن كلها شفهية، بل فيها عينات من برديات دالة على الطريقة التي بها تطور الخط العربي بما يسبق إصلاحات ابن مقلة بزمن بعيد. وأكدت أن الأصول تشكلت في زمن سابق على الإسلام. وأنها أدلة على أولوية تدوين المسائل الأدبية وغير الأدبية. وانطلاقا من هذه التصورات أعادت نبيهة عبود فحص المصادر ذات الصلة بموضوع الأوراق البردية التي وفَّرها لها المعهد الشرقي في شيكاغو. وكان قد اقتنى عام 1929 مجموعات عدة من البرديات العربية، وأشرف عليها مارتن سبرينغلينغ بروفيسور الدراسات السامية في المعهد نفسه، وإليه أهدت نبيهة عبود كتابها. وكان نصيبها من تلك المجموعات تحقيق ما يقارب 331 بردية مبكرة، من ضمنها ثلاثون بردية هي جزء من حكايات ألف ليلة وليلة.
ولقد خطَّأت نبيهة عبود في كتابها موضع الرصد مستشرقين، كانوا قد نفوا وجود الأصول والمصادر، فقللوا من أهمية فهم العرب للتاريخ، ولم يستشعروا وجود حس تاريخي في تلك الفترة المبكرة من الإسلام، وإنما اهتموا بإنجازات الخلفاء الشخصية على حساب إعطاء الفضل إلى تنوع مستوى المواد الشفهية والمكتوبة المتقدمة التي وجدها المأمون جاهزة في متناول يده. وهذا إلى جانب إساءتهم استخدام مفردات (جمع/ روى/ ذكر) وأسماء (صحيفة/ دفتر/ ديوان) فلم يعطوا أهمية إلى سلطة الاسم على عنوان الكتاب، ما أدى إلى طمس الأدلة. ولم تجد عبود في آراء فرانز روزنتال ما يدل على جدة جهده في تقييم المصادر القديمة كونه استمد آراءه من مصادر متأخرة نسبيا، فلم يأبه بمن هم قبل الطبري وابن اسحاق وغيرهما من الذين كانوا يستندون إلى أقوال المؤرخين السابقين.
وعللت نبيهة عبود امتلاك المؤلفين العرب الأوائل الفهم التاريخي لحركة الحياة بعاملين جوهرين: الأول هو اهتمام النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام بالتاريخ البشري بدءا من خلق الإنسان إلى نهايته، فضلا عن دوره عليه الصلاة والسلام في الحض على تعلم القراءة والكتابة. واستمر أمر التعلم في زمن الخلفاء الراشدين حتى غدت للمعلمين مكانتهم انطلاقا من أهمية التدوين الذي تطور من التأليف إلى النسخ، ومن النسخ إلى النشر والبيع. وظهر سوق خاص للوراقين، وأول إشارة مبكرة إليه تعود إلى زمن المهلب بن أبي صفرة في النصف الثاني من القرن الأول.
أما العامل الآخر فهو القص القرآني لحياة الأنبياء. الأمر الذي حفَّز المؤلفين المسلمين الأوائل والمؤرخين مثل وهب بن منبه وابن هشام وابن الكلبي وابن اسحاق على تقصي التاريخ. وفيه تجلت الأصول والمصادر القديمة المتعلقة بما قبل الإسلام وصدره من تفسير قرآني وأدب وتراث. وتأسست بناء على ذلك مجموعة تقاليد سار عليها المؤرخون فيما بعد، معتبرين كل الاعتبار بتلك الأصول والمصادر في أثناء تدوينهم مسائل حياتهم على البرديات.
ومن توصلات نبيهة عبود المهمة أن التاريخ ليس هو التراث، وأن الخبر والحديث مصطلحان مختلفان، فكل حديث عن النبي وأقوال الصحابة هو خبر، ولكن ليس كل خبر هو حديث. أما أهم التقاطات عبود السردية، فتتمثل في اعتبارها أنَّ جمع الوثائق التاريخية والمذكرات في دفاتر كان يتم بدافع ديني أو سياسي وبالإفادة أيضا من الأساليب الأدبية. وبذلك مارس العرب المسلمون السرد التاريخي في وقت مبكر، وفيه دمجوا الواقع بالمتخيل والشعر بالتاريخ. ومثال نبيهة عبود على ذلك قصة معاوية وعبيد بن شرية الذي كان حافظا لعلوم العرب وأنسابهم وشعرهم وتاريخهم. وهذا ما جعل اسم (عبيد) لوحده مصدرا. ولقد ذكره ابن إسحاق وابن الكلبي وابن قتيبة والمسعودي كما أشار الجاحظ إلى عبيد مؤرخا وعالم أنساب. وكان المستشرق كرنيكو قد عدَّ عبيدا شخصية وهمية. وهو ما فنَّدته نبيهة عبود، مؤكدة أن كرنيكو لم يتثبت من الحقيقة فقرأ القصة قراءة خاطئة استنادا إلى محرر المصدر الأصلي ابن إسحاق، فتصور أن عبيدا وهمي، وأن ابن إسحاق هو المؤلف.
واستنادا إلى هذا دعت نبيهة عبود من يأتي بعدها من الباحثين إلى (التركيز على استعادة أقدم النصوص في التاريخ، وفي مجالات أخرى وعلى التقييم الموضوعي لموثوقيتها، وعدم اتخاذ الطريق السهل من خلال الرفض القاطع لمؤلف أو عمل معين) ص72. وهذا ما يصبُّ في صلب ما تُعنى به اليوم دراسات الأقلمة السردية.
ومن الجدير ذكره هنا أنَّ الباحث العراقي الدكتور محسن مهدي أخذ عن أستاذته نبيهة عبود والمشرفة على أطروحته للدكتوراه منهجها العلمي في تحقيق المخطوطات، فكان بدوره علمًا من أعلام الباحثين العرب على المستوى العالمي.
*كاتبة من العراق



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد