اتفاق شرم الشيخ .. محطة جديدة في مسار الصراع

mainThumb

14-10-2025 10:42 PM

أعتقد أن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي وُقِّع في شرم الشيخ في أكتوبر/تشرين الأول 2025، لم يكن مجرد هدنة عسكرية مؤقتة كما يراه البعض، بل لحظة سياسية فارقة أعادت ترتيب موازين القوى في المنطقة، وفتحت الباب أمام مرحلة جديدة من التعاطي العربي والدولي مع القضية الفلسطينية.
بعد عامين من الحرب الدامية، وما رافقها من دمار إنساني واقتصادي هائل، بدا الاتفاق وكأنه استراحة مُنهكة للطرفين، لكنه في الواقع ــ كما أرى ــ يشكل بداية مسار مختلف. فالاتفاق لم يقتصر على وقف القتال، بل شمل خطوات عملية مثل الانسحاب الجزئي، وتبادل الأسرى، وتوسيع المساعدات الإنسانية، ما يشير إلى وجود نية مبدئية لتحويل الصراع المفتوح إلى عملية سياسية تدريجية.
في تقديري، يظل الدور المصري هو الأكثر محورية في هذا المشهد. فمنذ اندلاع الحرب، كانت القاهرة تدير خيوط التفاوض بصبر وهدوء، محافظة على توازن دقيق بين أمنها القومي وواجبها العربي. واليوم، مع توقيع اتفاق شرم الشيخ، تبدو مصر أمام فرصة لتثبيت موقعها كضامن رئيسي للتهدئة، ومسؤولة عن منع انزلاق الوضع مجددًا إلى العنف.
لكن مصر، رغم ثقلها السياسي، لا يمكن أن تتحمل العبء وحدها. فنجاح الاتفاق ــ بحسب ما أستنتج من معطيات الواقع ــ يتطلب دعمًا عربيًا متماسكًا، يشمل السعودية والإمارات وقطر، كلٌّ من زاويته وقدرته. القاهرة يمكنها أن تواصل الإمساك بالملف الأمني والسياسي، فيما تتولى الرياض توفير الغطاء الدولي، وأبوظبي الدعم المؤسسي والاقتصادي، والدوحة الجانب الإنساني والوساطي.
من وجهة نظري، ما تحتاجه مصر اليوم ليس فقط الدعم المالي أو السياسي، بل غطاء عربي شامل يمنحها شرعية التفاوض ويدعم موقفها أمام القوى الدولية. السعودية، بعلاقاتها الوثيقة مع واشنطن والعواصم الغربية، قادرة على أن تكون الضامن الدولي للاتفاق، بينما تستطيع الإمارات تحويل التفاهمات إلى برامج عملية في إعادة الإعمار، بخبرتها التنظيمية الواسعة. أما قطر، فيمكنها أن تستمر في إدارة الملفات الحساسة المتعلقة بالأسرى والمساعدات، وهو ما أثبتت نجاحها فيه مرارًا.
باختصار، أرى أن هذا التنسيق العربي هو شرط وجودي لاستمرار الهدنة وتحويلها إلى سلام فعلي. فالاختلاف في الأدوار لا يعني التنافس، بل التكامل، وهو ما تحتاجه المنطقة بعد سنوات طويلة من الانقسام والارتباك.
من الصعب فصل إعادة إعمار غزة عن المسار السياسي. فبرأيي، لا يمكن الحديث عن استقرار أمني دون تنمية اقتصادية تلمس حياة الناس فعلاً. الإعمار ليس فقط بناء حجارة، بل إعادة بناء الثقة، وخلق فرص عمل، وتوفير بيئة كريمة للفلسطينيين تمكنهم من إدارة شؤونهم باستقلال نسبي.
هنا، تبدو فكرة إنشاء صندوق عربي–دولي لإعادة إعمار غزة ضرورية. صندوق تشارك في تمويله السعودية والإمارات وقطر، ويُدار بتنسيق مصري مباشر لضمان الشفافية ووحدة القرار. هذا الإطار، إن تحقق، قد يحوّل الهدنة من مجرد وقف للنار إلى مشروع حياة حقيقي للفلسطينيين.
باعتقادي، الحرب الأخيرة على غزة لم تُنهِ الصراع فحسب، بل أعادت رسم خريطة الإقليم. فالمشهد اليوم يشي بتحولات عميقة: حركات مسلحة يُطلب منها نزع سلاحها، ونُظم تتعرض لإعادة تشكل، ومشاريع إقليمية تتقاطع فيها الحسابات الإسرائيلية والتركية والإيرانية.
في هذا السياق، أعتقد أن غياب الدور العربي النشط في السنوات الماضية كان أحد أسباب تفاقم الأزمات، لكن اتفاق شرم الشيخ يمنح العرب فرصة نادرة لاستعادة زمام المبادرة. فالعالم اليوم يبحث عن حلول واقعية، والعرب قادرون، إذا اتحدوا، على صياغة هذه الواقعية بما يخدم مصالحهم ويعيد التوازن إلى المنطقة.
في نهاية المطاف، أرى أن الواقعية السياسية التي يتحدث عنها الجميع لا تعني القبول بالأمر الواقع، بل تعني القدرة على تحويل الهدوء إلى استقرار، والاستقرار إلى أفق سياسي أوسع. اتفاق غزة 2025 ليس حلاً نهائيًا، لكنه بداية طريق يمكن أن يقود إلى نظام إقليمي أكثر توازنًا وعدلًا، إذا أحسن العرب إدراكه وإدارته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد