زهران ممداني… حين تنتخب نيويورك ما لم يكن متخيلاً

mainThumb
ممداني

05-11-2025 09:53 PM

 ما حدث في انتخابات نيويورك  جعلني وفوز زهران ممداني، الشاب المسلم اليساري المولود في أوغندا، ليصبح أول عمدة مسلم لأكبر مدينة في الولايات المتحدة، ليس مجرد انتصار انتخابي، بل هو في رأيي انقلاب رمزي على الخطاب الأميركي القديم، ذلك الذي صاغه دونالد ترمب ومَن سار في ركبه، خطاب الخوف من الآخر، وعداء الإسلام، والتوجس من الهجرة.

أرى أن ما جرى في نيويورك لا يمكن فهمه بوصفه حدثاً محلياً، بل هو تعبير عن تحوّل في الوعي الأميركي. فهذه المدينة التي كانت يوماً موئل “الغيتوهات” العرقية، باتت اليوم تنتخب من كان يُنظر إليه ذات يوم بوصفه “الآخر الكامل”. هارلم التي كانت سجناً اجتماعياً للسود، أصبحت حيّاً راقياً يسكنه بيل وهيلاري كلينتون، وها هي نيويورك كلها تفتح أبوابها لابن مهاجر مسلم، متزوج من سورية، ليجلس على مقعد عمدة كان حكراً على الساسة التقليديين من أبناء النخبة البيضاء.

أعتقد أن انتخاب ممداني لا يعبّر فقط عن إرادة جيل جديد، بل عن تعبٍ جماعي من سياسات الانقسام. هذا الجيل لم يعد يرى في "الإسلام" تهديداً، بل يرى فيه جزءاً من فسيفساء المدينة. لم يعد يخشى كلمة “يسار”، ولا يتوجس من مَن يتحدث عن العدالة الاجتماعية. ربما لأن أزمات السكن، والرعاية الصحية، والفوارق الطبقية أصبحت تؤلم الجميع، بغضّ النظر عن العرق أو الدين.

لقد قدّم ممداني نفسه بطريقة غير مألوفة: ابن الطبقة العاملة، المؤمن بعدالة الوصول إلى السكن، والرعاية، والخبز. لم يخفِ إيمانه، بل جعله جزءاً من حملته. صور نفسه يفطر في مترو الأنفاق في رمضان، يتحدث عن وجبات “الحلال” الغالية، ويمد يده لملايين من سكان المدينة الذين يعرفون جيداً معنى أن تكون “غريباً” في وطن كبير.

ولا بد أن نعترف أن حملة ممداني استخدمت لغة جديدة للسياسة: لغة إنسانية، رقمية، تفاعلية. فبينما ظل خصومه يتحدثون من المنصات، كان هو يلتقط صور السيلفي في الشوارع، ويصغي إلى الناس. لقد حوّل السياسة من خطاب فوقي إلى محادثة يومية.

وما أراه مثيراً أكثر هو رمزية هذا الفوز في وجه ترمب. لم يكن ترمب قادراً على مهاجمته بسبب ديانته علناً، فاتهمه بالشيوعية، وهي تهمة فقدت معناها منذ زمن الحرب الباردة. كأن التاريخ أراد أن يسخر من نفسه: فبينما تشتعل الحرب في أوكرانيا – آخر رموز الشيوعية السابقة – يُتهم شاب مسلم في نيويورك بالشيوعية لأنه يطالب برفع الأجور ومجانية المواصلات.

أستنتج أن “الخطر” الحقيقي – بالمعنى الذي استخدمه طه حسين – ليس في أن يكون عمدة نيويورك مسلماً، بل في أن تتحول المدينة إلى منارة لفكرٍ مغايرٍ تماماً، فكر يرى العالم من زاوية العدالة لا الهيمنة. نيويورك مدينة “عدوى”، كما يُقال، ومنها تنطلق الموضات والأفكار والتمردات. فإذا تبنّت هذه المدينة نموذج ممداني، فربما نكون أمام بداية إعادة تشكيل في “العقل الأميركي” نفسه، ذلك العقل الذي ظل لعقود مشدوداً بين الخوف من المختلف والرغبة في احتوائه.

إن فوز زهران ممداني ليس مجرد انتصار لشخص أو طائفة، بل إشارة إلى أن التحول ممكن، بل جارٍ بالفعل. أن ترى نيويورك – رمز الرأسمالية والإعلام – تقف مع شاب مسلم يتحدث عن الضرائب على الأغنياء والمواصلات المجانية، فذلك حدث يفوق الخيال، ويؤكد أن أميركا، رغم تناقضاتها، ما زالت تملك قدرة لا مثيل لها على إعادة اختراع نفسها.

ربما لهذا السبب يستحيل أن يكون أحد “خبيراً” في الشؤون الأميركية. لأنها، ببساطة، بلد لا يتوقف عن مفاجأة نفسه والعالم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد