هل اصبحت الواردات في الميزان التجاري ضيفًا ثقيلاً

هل اصبحت الواردات في الميزان التجاري ضيفًا ثقيلاً

01-12-2025 05:44 PM

في دفتر الاقتصاد الأردني صفحةٌ تتجدد في كل عام، تحمل أرقامًا ليست جامدة بقدر ما هي مرايا تعكس حركة وطنٍ يتلمّس طريقه بين جبال الاحتياج وسهول الإمكان، فعجز الميزان التجاري ما يزال يمدّ ظلاله، إذ بلغ في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 ما يقارب 4.197 مليار دينار، متجاوزًا رقم العام الذي سبقه، رغم أن الصادرات حققت نموًا يقارب 9.22٪ ذلك المشهد الرقمي يشبه موجةً ترتفع بثبات، بينما تعصف بها رياحُ الواردات التي تتدفق من كل اتجاه، فيُسمع خريرها أعلى من صوت ما يُصدّره الوطن من جهد وفكرة وموارد، وبين الصادرات التي تشق طريقها في أسواق العالم، والواردات التي تتسع احتياجاتها بقدر اتساع الزمان، يجد الاقتصاد الأردني نفسه واقفًا على حافة معادلة دقيقة، فمعدّل تغطية الصادرات للواردات يظل قريبًا من نصف المطلوب، يرتفع إلى 51٪ في بعض الفصول، لكنه لا يبلغ بعدُ حدَّ الأمان، ومع ذلك، تبرز ومضات ضوء مفاجئة؛ فمن بين شركائه التجاريين تُظهر الولايات المتحدة، مثلًا، عامًا ناجحًا في 2024، حيث سجّل الأردن معها فائضًا يُقارب 877 مليون دينار، مما يؤكد أن الاقتصاد حين يُحسن استخدام بوابات التجارة الحرّة، يستطيع قلب الموازين ولو على مستوى شراكة واحدة.
ولا يقتصر الضوء على البعد الدولي؛ بل يرتسم في الفضاء الإقليمي أيضًا، فالتجارة مع دول منطقة التجارة العربية الحرّة (GAFTA) تكشف عن فرصٍ تتشكل في رحم التحديات، حيث ارتفعت صادرات الأردن إليها في الثلث الأول من 2025 بنسبة 19.6٪، وإن بقي الميزان معها بجملته يراوح في دائرة العجز، غير أن قراءة أعمق تُظهر أن بعض الدول العربية تُعد منافذ حقيقية يمكن البناء عليها، وأن الميزة النسبية للصناعة الدوائية والصناعات الخفيفة والزراعة المحمية قادرة على ترسيخ جديد في جسد الصادرات، وفي تأمل هذه المعطيات، يبدو العجز التجاري ليس مجرد رقم ضاغط، بل ظاهرة تحمل في طياتها سؤالًا مركزيًا: هل يمكن تحويل هذا التحدّي إلى مقدّمة لإنجاز؟ تجارب التاريخ القريب تجيب بالإيجاب؛ فدول كثيرة لم تكن أغنى من الأردن في مواردها، لكنها كانت أكثر تصميمًا في توجيه سياساتها، ركّزت على التصنيع المحلي، رفعت القيمة المضافة لسلعها، فتحت أسواقًا جديدة، وبنت اقتصادًا يستمد قوّته من تحويل الفكرة إلى منتج، والمنتج إلى قيمة، ومن هذه التجارب يمكن للأردن أن يستلهم خارطة طريقه، فالعجز ليس قدرًا، بل نتيجة لمعادلة يمكن تعديل حدودها.
وهنا تتقدم أمام صانعي القرار الاقتصادي جملة من الدروس التي لا يمكن تجاهلها، أولها أن اتفاقيات التجارة الحرة ليست أوراقًا معلّقة، بل جسورًا حقيقية يمكن عبورها إلى توازنٍ أفضل، كما أثبتته تجربة السوق الأميركية، وثانيها أن تنويع أسواق التصدير ضرورة لا ترفًا؛ فالتعويل على مناطق قليلة يجعل الاقتصاد رهينة لتغيرات مفاجئة، أما ثالثها فهو أن رفع القيمة المضافة للمنتجات الأردنية يمثل مفتاحًا استراتيجيًا لزيادة الصادرات، إذ إن المواد الخام وحدها لا تصنع ميزانًا متوازنًا، بينما يفعله المنتج المحكم، والمعالجة الدقيقة، والتصنيع الذكي.
ومن هذه الدروس نستخلص توصيات ذات طابع عملي، لكنها تكتسي ثوبًا فلسفيًا حين ننظر إلى أثرها بعيد المدى، فالاقتصاد الأردني يحتاج إلى خطة تصنيع وطني حقيقية تعيد تشكيل سلاسل القيمة في الداخل، وإلى بيئة استثمارية تُخفّض كلفة الإنتاج وتفتح أفق التصدير، وإلى سياسة تُعامل التنوّع السوقي كحماية مستقبلية لا كخيار تكميلي، كما يحتاج إلى تقوية القطاعات ذات الجاهزية للتصدير، كالدواء، والصناعات الغذائية، والزراعة الذكية، والطاقة المتجددة، لتكون أجنحة جديدة يطير بها الميزان التجاري نحو توازن مستدام.
وهكذا يتبدّى المشهد: أرقامٌ تُخبر عن واقع، وتجاربٌ تشهد بقدرة الدولة على التغيير، ورؤيةٌ تتكوّن في الطريق إلى اقتصاد أكثر إنتاجًا وأقلّ اعتمادًا، وفي النهاية، فإن العجز ليس إلا صفحة من كتابٍ أكبر، يمكن للوطن أن يعيد كتابة فصوله، لا عبر الانفعال بالأحداث، بل عبر رسم السياسات التي تحوّل النظرية إلى ممارسة، والتحدّي إلى إنجاز، والمستقبل إلى فرصة تستحق الانتظار والعمل الدؤوب معًا لبنائها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد