لكنّنا ربحنا جيلًا

mainThumb

20-10-2025 01:30 AM

 

قبل سنة 2022، التاريخية كرويًا بالنسبة للمنتخب المغربي، كان الفريق الوطني لكرة القدم مصنفًا في المركز الثاني والعشرين حسب تصنيف الفيفا في أكتوبر 2022. قبلها كنّا ندخل المباريات بآمال مرتفعة وحماس كبير، وكان اللاعبون يبذلون كل جهدهم من أجل الخروج بحصيلة أهداف مُشرّفة، لكن سوء الحظ يكون دائمًا حليفهم، فيتكرر السيناريو نفسه. ثم نسمع في استوديوهات التحليل الجملة نفسها؛ «قدَّم المنتخب أداءً جيّدًا لكنّ الكرة لم تكن من نصيبهم، قد لا نتأهل للدور القادم لكنّنا على الأقل ربحنا فريقًا متماسكًا».
هذا طبعًا قبل أن يبصم مشاركته المتميّزة في كأس العالم قطر (نوفمبر، ديسمبر) 2022، ليحتلّ الترتيب الرابع عالميًا، ويصعد للمركز الحادي عشر في تصنيف الفيفا العالمي (FIFA World Ranking).
وبينما كان المغاربة يحتفلون في الشوارع بهذا الإنجاز، وكالقطعة الصغيرة التي تُسقِط قطعًا أكبر أدّى صعود المنتخب المغربي إلى المربع الذهبي في كأس العالم بقطر إلى سلسلة من الأحداث المتشابكة:
بدا الأمر في حينه مجرد إنجاز كروي غير مسبوق، احتفلنا به وخرجنا إلى الشوارع هاتفين ومهلّلين في لحظة وطنية ستبقى محفورة في ذاكرتنا الجماعية، غير أنها كانت فاتحةً لشهية المستثمرين الذين وجدوا في هذه النشوة الجماعية مشاريع ضخمة، أبرزها مشروع الملعب الكبير بالرباط، استعدادًا لتنظيم كأس العالم 2026. غير أن هذه الديناميكيّة، التي بدأت حلمًا وطنيًا جميلًا، كانت الشرارة أيضًا التي أطلقت فيما بعد موجة احتجاجات شبابية رافعت شعار: "الصّحة أوّلًا، ما بْغيناش كأس العالم" (لا نريد كأس العالم/ المحرّر)، بعد أن سجّل مستشفى الحسن الثاني في أكادير (جنوب المغرب) في سبتمبر الماضي ثماني وفيات كلهم لأمهات لقين حتفهنّ أثناء الولادة.
خرجت أصوات المتظاهرين في شوارع مدن المغرب، باحثةً عن آذان تسمع مطالبها الاجتماعية التي تعتبر الحد الأدنى مما يمكن المطالبة به: تعليم جيّد وصحة جيّدة، وعيش كريم. هؤلاء الشباب الذين اختاروا لنفسهم اسم: «GEN-Z 212»، خرج من غياهب منصّة «ديسكورد» إلى رحابة الشارع الذي لم يستقبلهم استقبالًا جيّدًا، فاصطدم الشبّان غيرُ المنتمين حزبيًا، الرافضين «الأبويةَ السياسية»، الذين لا يقبلون التنظير والذين يعرّفون عن أنفسهم بوصفهم مواطنين فحسب، بمقاربة أمنية كانت ردّة الفعل الأولى للحكومة على هذا الخروج.
ذلك يشبه الولدَ الصغير الذي يجري باكيًا نحو أمه فتصفعه هذه الأخيرة عوض أن تحضنه، هكذا قوبلت الاحتجاجات السلمية بعنف واضح وغير مبرّر، واعتقالات طاولت العشرات من الشبان الذين لم يحملوا سوى أصواتهم وشعاراتهم. بعضهم يواجه اليوم أحكامًا قضائية تصل لعشر سنوات سجنًا. ربما لم تضرب الحكومة حسابًا لهذا الجيل، ربما لم تتوقع أن الشباب المغربي العازف عن السياسية والغارق في أعماق ما أنتجته العولمة من ترفٍ افتراضي ومؤثرين ومحتوياتٍ تسحبهم بعيدًا عن واقعهم، «سيستفيق» يومًا ويطالب بحقه، لم تدرك أن المدرسة التي أُضعف دورها حين أُهملت مطالب الأساتذة، كانت أول جبهةٍ في تشكيل وعي المواطن، وأن تهميشها لم يكن مجرّد خللٍ تربوي، بل فعلًا سياسيًا طويل الأمد ساهم في إضعاف التفكير النقدي، وجعل الأجيال أكثر هشاشة، غاب عن تفكيرهم أنّ الاحتجاج ضدّ الظلم والإهمال وارتفاع الأسعار نتيجة حتمية لسياسات التهميش والإلهاء.
قد يبدو لنا الآن بعد ثلاثة أسابيع من بداية الاحتجاجات (27 سبتمبر) أن الأمور بدأت تهدأ نوعًا ما، في الشارع على الأقل، أمّا على منصّة «ديسكورد» حيث بدأت الدعوة إلى الاحتجاجات، ما زال الشباب ينظمون حلقات نقاش يستضيفون فيها صحافيين وسياسيين، فاتحين بذلك مساحة للنقاش سيقود حتمًا لتشكيل وعي سياسيّ، وسواء كانت صحوة هذا الجيل ستأتي بتغيير ملموس على أرض الواقع أو لا، نستطيع أن نقول إنّ المكتسب الوحيد لهذه «السحابة العابرة»، أنها أجبرت النّخب على الاستيقاظ من سباتها، وأرغمت الإعلام الرسمي وغير الرسمي على ممارسة دوره الطبيعي في النقاش والانتقاد والمراقبة وأن يكون ورقة ضغط على الأحزاب الحاكمة، وكما كنّا نردّد في الماضي، حين كان المنتخب المغربي يخرج منهزمًا من مباراةٍ ما، تلك الجملة التي نحاول بها تطييب الخاطر: "ماعليش، ربحنا فريق" (ربحنا فريقًا). نقولها اليوم أيضًا، ونحن نرى الأوضاع تهدأ والأمور تعود إلى مجراها الطبيعي، لأنّ لا تغيير دون وعي ولا وعي دون صدمة...، نقولها هذه المرة بثقةٍ مختلفة: "ماعليش، ربحنا جيل" (ربحنا جيلًا).



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد