حنان التي تحفر في الذاكرة… وديما آخر نجمة فوق الركام

mainThumb

30-10-2025 11:14 AM

تسير حنان بخطوات لا تشبه السير، كأن الأرض تحرّكها، ثم تعيدها إلى نقطة البداية. حجر يعلو حجراً، وعمود يخرج من جسد الإسمنت مثل ذراع صدئة، وغبار يعلو كالضباب ويهبط في العيون. تقف أمام الركام وتقول: هنا كان الباب. تشير إلى الهواء: هنا كان الضوء الذي يوقظ أولادي. تلمس كتلة رمادية وتهمس: هنا كانت ضحكتهم.
ترفع عباءتها السوداء قليلاً كي لا تتعثر، وتغرس يديها العاريتين في قلب الخراب، تخلع قطعاً من الطين والحجر والحديد، تجرح أطراف أصابعها، وتشتم رائحة تعرفها أكثر من أي عطر: رائحة البيت حين يختزن خبز الصباح وشاي النعناع وثياب الصغار بعد اللعب. تقول لمن حولها: «لا تنظروا إليّ، انظروا تحت هذا الركام، ربما يلوّح لي زوجي بقلادة نسيتها على رف المطبخ، ربما يضحك ابني الصغير، لأنه وجد سيارة البلاستيك التي أضاعها أمس». ثم تغوص من جديد في صمت مكتوم.
في غزة يتعلم المرء أسماء الحجارة كما يتعلم أسماء أبنائه. الحجارة هنا تحفظ الذاكرة، تصنع من كل ركن حكاية، ومن كل حكاية شهقة طويلة. حنان تعرف حجارتها واحدة واحدة. هذا الحجر من زاوية الغرفة التي كانوا يسمونها «البرندة»، وهذا من حافة السلم حيث كان ابنها الأوسط يتخفى ليخيف أخاه الأكبر. تتلمس الحواف، وتستعيد إيقاع الأيام. صباح يخرج منه زوجها إلى عمله ويعود بوجه يلمع بالعرق والرضا، وظهر يشوي فيه الصغار رغيفاً على موقد صغير، ومساء تتفقد فيه دفاتر المدرسة وتعد الوعود الصغيرة التي تمنح الطفل نوماً آمناً.
تتذكر الليلة الأخيرة، في تلك الليلة قالت لزوجها: «هل تسمع؟ البحر قريب الليلة». قال: «البحر لا ينام هنا». ثم جاء الليل الثقيل، واختلط صوت الريح بصوت آخر لا يشبه الريح. اهتز البيت كما لو أن عملاقاً حمله ورماه على ظهره. تلاشى الضوء، وتكاثرت الظلال، وسقطت الأسماء في فجوة لا قرار لها.
تفتح حنان عينيها الآن على نهار بلا سقف، وتقول: أنا لم أنتهِ من ترتيب الصباح. تلتقط قطعة قماش محروقة وتشمها، ثم تعيدها إلى الأرض… من بعيد يصل صوت امرأة تنادي على أحبتها. تلتفت حنان وتومئ برأسها وتبكي. ثم تعود إلى حفرها الصغير، تحفر بقوة من يعرف أن الزمن يقف حين تنطق الأسماء. تنطق اسم زوجها، فترتجف الحجارة. تنطق اسم ابنها الأكبر، فتتدحرج كتلة من الطين. تنطق اسم الأوسط، فتزقزق عصفورة حائرة على حافة سحابة من الغبار. تنطق اسم الأصغر، فيدنو رجل شاب يحمل قارورة ماء ويضعها قربها. تشكره وتقول: أريد ماء للاسم الرابع الذي لم أولده بعد.. الاسم الذي سيولد من هذه الحجارة حين أخرجهم.
تمر يد على كتفها. يقول أحد المسعفين: نفتش في الجهة الأخرى. تهزّ رأسها وتجيب: أعرف الطرق المختصرة إلى قلوبهم.
يدعوها إلى الاستراحة، تبتسم ابتسامة صغيرة لا تخلو من العناد، ثم تواصل. الأم تعرف أن اليأس ترف لا يليق بمن ينتظر أربعة وجوه. تضحك فجأة: أتعرف؟ كانوا يخفون عني قطع الحلوى تحت الفرش. اليوم أخفي عنهم دموعي تحت هذه الكوفية. السماء فوق غزة ليست زرقاء بالكامل، لها عروق من رماد. مع ذلك، تقف حمامة على سارية مكسورة وتفرد جناحاً واحداً. ترى المشهد، فتتذكر يد زوجها حين كان يصلح المروحة القديمة، يثبت المسمار بإصبعين، ويقول: يكفي أن ندفع الهواء قليلًا حتى يتحرك. تقول لنفسها: يكفي أن أدفع الحجارة قليلًا حتى يتنفسوا. تربط طرفي حجابها وتواصل الحفر.
يأتيها صوت جدتها من زمن بعيد: حين يضيع طفل في الحقل، نغني له كي يعود. تغني بصوت واهن في البداية، ثم يعلو رويداً رويداً: لحناً بسيطاً كانت تهدهد به أطفالها عندما يبرد الليل. تهتز الحجارة حولها كأنها تستمع. يقترب الناس، يشاركونها الحفر والغناء.
في زاوية الركام تلمح قطعة من الفسيفساء الملونة. تتذكر زفافها. رقصت قليلًا ثم خبأت فرحها في قلبها كي لا تحسدها العيون. قالت لها أمها يومها: احملي البيت مثل شجرة. حملته شجرة وبيتاً. واليوم تحمل عظام الشجرة وتعرف أن جذورها لا تموت. الثبات ليس حجراً جامداً، الثبات أم تؤمن أن الحب أقوى من سقوط السقف.
يمر الوقت مثل رمل يتسرب من بين الأصابع. ومع كل دقيقة، تشتد قبضتها. تنزف يدها قليلاً فتضحك: الدم يعرف الطريق.
يضع المسعف ضمادة سريعة وتكمل. لا تريد أن تسمع عبارات العزاء. تريد أن تسمع خفقة قلب واحدة كي تستعيد الإيقاع. تهتف: يا محمد… يا محمود… يا يحيى. وتضيف اسم زوجها. الأسماء تصير سلالم. تصعد عليها بقلبها. تتعثر أحياناً، تنهض دائماً.
تتأمل السماء للحظة وتحادث الغياب: إذا كنتم تسمعونني، سأصنع لكم بيتاً من هذه الذكرى، لن يهدمه القصف، ولن تذروه الرياح. وحين تعودون، لن أسألكم أين ذهبتم. سأعد لكم الماء وأمسح الغبار عن وجوهكم، ثم ننام جميعًا في سلام.
الغروب يقترب. ظلها يطول فوق الركام كأنه جسر. تمر نسمة باردة، تفوح منها رائحة بحر لا ينام. تمسح عرقها وتبتسم ابتسامة خفيفة. تقول في سرّها: سأجدكم. وإن لم أجدكم، سأجد أسماءكم، وسأبني بها بيتاً، وسأربي فيها ما تبقى من روحي. تغمض عينيها لحظة وتراهم يركضون نحوها من عمق الضوء: الأكبر يحمل كتاباً، الأوسط يحمل طائرة من ورق، الأصغر يضحك لأن حذاءه انحل رباطه، وزوجها يمشي خلفهم كي لا يضيع أحد. تفتح عينيها على الغبار وتواصل. لا تحتاج إلى معجزة. تحتاج فقط إلى يدين وذاكرة.
حين يهبط الليل أخيراً، ترفض أن تغادر. تجلس على حجر حادّ وتستند إلى اسم تراه ولا يراه أحد. تقول لمن يحثها على الراحة: سأغفو هنا قليلًا، أريد أن أحلم بهم قرب هذا الدرج الذي كنا نعد عليه السنوات. تغمض عينيها، وتسمع في الداخل خفقاً بعيداً يشبه الخطوة الأولى لطفل يتعلم المشي. تبتسم. الليل لا يخيف من يحمل داخله نهاراً كاملاً.
في الصباح ستنهض قبل الجميع. ستجمع ما تبقى من الورد الذي لم يمت رغم الجفاف. ستهز الغبار عن معطف وجدته، وتضعه على كتفيها كأنها تتدثر بيد زوجها. ستنادي مرة أخرى، وستواصل إلى أن يلين الحجر، إلى أن تنهض الأسماء من نوم طويل. وحين تسألها غزة: كيف بقيت؟ ستجيب: بقيت لأن قلبي يعرف طريقه بين الحجارة.

ديما: آخر نجمة فوق الركام

حين فتحت ديما عينيها، كان اللون الأحمر يملأ المشهد. لم تفهم في البداية إن كان فجراً جديداً أم ناراً قديمة تشتعل في السماء. جسدها الصغير كان يثقل عليه الغبار، وأصابعها تبحث عن يد اعتادت أن تمسك بها كل صباح. لم تجد أحداً. قالت في سرّها: ربما ما زالوا نائمين. ثم سمعت الصمت، ذلك الصمت الذي لا يشبه النوم.
ديما الناجية الوحيدة من عائلتها. وحدها في خيمة ضيقة تحمل ذاكرة بيت كان يعج بالضحكات، وصوت أمها وهي تناديها لتتناول الفطور قبل المدرسة، وصوت أبيها وهو يمازحها قائلاً: ستكبرين وتكتبين عن غزة أجمل الحكايات. كبرت فجأة، ولم تجد من تكتب له سوى الغياب.
تمسح على شعرها الذي علق به رماد البيت. تقول للصحافية التي تسألها: أول ما فتحت عيني، كان كل شيء أحمر.
كل مساء، تجلس قرب زاوية الخيمة وتنظر إلى السماء. تسأل القمر: هل رأيتهم هناك؟ ثم تنام على وسادة من تراب، وتحلم بأن أمها تأتيها بثوب أبيض وتغطيها بظلها. في الحلم، لا يوجد ضجيج طائرات، ولا قصف، ولا ركام. فقط بيت صغير وأصوات خبز على النار. لكن حين تستيقظ، لا تجد سوى البرد وصوت الريح وهي تمزق أطراف الخيمة.
ديما لم تعد تخاف الظلام. الظلام صار وطناً آخر لا يقصفه أحد. حين ينام الأطفال من حولها، تبقى مستيقظة، تروي لنفسها قصصاً عن العائلة التي كانت. تقول: أبي كان قوياً مثل النخيل، وأمي كانت تغني حتى في أصعب الأيام. ثم تبتسم. الابتسامة لم تعد فرحاً… صارت وسيلة للبقاء.
في غزة، الأطفال يكبرون أسرع من أعمارهم. يحملون ذاكرة أكبر من حجم حقائبهم المدرسية. وديما، في التاسعة فقط، تتحدث كمن عاشت ألف حرب. تقول: أريد أن أعيش لأخبر العالم أن أمي كانت جميلة، وأن أبي لم يكن مقاتلاً، وأن إخوتي كانوا يحلمون بدراجة جديدة فقط.
حين تسدل الليل على وجهها، تشعر أن الله قريب. تهمس: يا رب، قل لهم إني بخير… لا تبكوا عليّ. ثم تغفو على وعد داخلي أن تنهض غداً وتزرع زهرة أمام الخيمة. لا تعرف إن كانت ستكبر، لكنها تؤمن أن الزهرة، حتى في غزة، يمكن أن تشق طريقها من بين الركام.
ديما ليست طفلة فقط. هي قصيدة قصيرة عن البقاء. في عينيها، رغم كل شيء، لمعة نجمة صغيرة… آخر نجمة فوق الركام.

كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد