المنفى وعصر الصّفاقة الماهرة وتعلّم لغة العنكبوت

المنفى وعصر الصّفاقة الماهرة وتعلّم لغة العنكبوت

04-12-2025 02:14 PM

هأنذا قد نجوت/ أنا آخر شعراء عصرنا/ لا أزال موجودًا/ لا أزال أعمل/ حتى في الصمت/ وإن أراد شيوخ آخرون أن يغادروا سرير موتهم/ ويغامروا في المجهول/ فماذا يريد أكثر/ ذلك الرجل الذي كانت حياته كلها تمرينًا على المغامرة/ حتى في سكون حديقته؟ / أعني الشاعر.
هذا المقطع الصغير الذي أعيد ترتيبه، هو من رواية الكاتب الأسترالي اللبناني الأصل ديفيد معلوف «حياة متخيّلة» التي صدرت عن دار المدى، بترجمة الشاعر سعدي يوسف.
على حدود الشعر القصوى، تتحرّك الحياة في هذه الرواية، فكيف يمكن للشعر أن يكون غائبًا وبطل الرواية هو الشاعر الروماني أوفيد، صاحب «مسخ الكائنات» و»فن الهوى». وكيف كان للشعر أن يتحول إلى نثر والمترجم شاعر وكذلك الكاتب.
ثلاثة شعراء إذن يجتمعون في هذه الرواية، البطل، الكاتب، والمترجم.
لذا، فإن قارئ «حياة متخيّلة» سيستطيع بسهولة أن يُمسك الخيال بيده دون عناء، وأن يعيش معه كحقيقة ساطعة في سهوب جليدية على حواف الغابات، في أزمنة غابرة، ليرى الحياة وكأنها تتشكّل أمام عينيه، في كائن يبحث عن لغته في المنفى، كأنه لم يكن يملكها ذات يوم، ويصل في غربته إلى درجة من الوحدة تجعله يفكر أن يكتب بلغة العناكب!
ذاك هو أُوفيد أكـبر شعراء عصره وأكثرهم حضورًا عبر العصور، حين وجد نفسه منبوذًا في بلاد بعيدة. يروي سيرته الداخلية، وإحساسه بالأشياء من حوله كما لو أنه يستعيد كينونته، ويتوحّد بالأشياء تدريجيًّا: «أحاول أن أتخيل السماء بكل مجموعات كواكبها، الكلب، الدب، التنين، ويسقط المطر فأقول: أنا أُمطر. ويقصف الرعد، فأقول: أنا أرعد».
عشر سنوات تلك التي أمضاها أوفيد في المنفى. وحول ذلك يقول ديفيد معلوف: «نعرف القليل عن حياة أوفيد، وقد كان غياب الوقائع هذا نافعًا، باعتباره الشخصية المركزية لحكايتي، وسمح لي بحرية الابتداع الطليق، فما أردت أن أكتبه ليس رواية تاريخية ولا سيرة، بل قصة تمتد جذورها في الحدث الممكن».
غياب الوقائع هذا هو الذي أطلق العنان لمخيلة معلوف، وتركها حرة ترسم الارتطام المدوّي للذات مع العالم الجديد، عالم المنفى وما فيه من عزلة ووحشية. وبسبب وجوده في «توميس» وسط أناس لا يتقنون لغته ولا يتقن لغتهم، فإن السّرد يأتي من داخله، على شكل مونولوج طويل، يستغرق صفحات الرواية كلها، باستثناء مفردات قليلة. ولأن ذات الشاعر هنا في حالة قصوى من المعاناة، فإن اللغة ترتفع، خصوصاً وأن الطبيعة البكر هي التي تحفّ به، مما يختصر المسافة بينه وبين الأسطورة. ولكن، أكان لا بدّ من أن يُنفى أوفيد؟
إن النتيجة النهائية التي يصل إليها القارئ، أن هذا المنفى أعاد إليه بهاءه الإنساني كشاعر. فأوفيد، الذي يتذكر في بداية الرواية علاقة سحرية مع طفل حين كان في الثالثة أو الرابعة من عمره، يكلمه ويبتكر معه لغة جديدة خاصة بهما، أوفيد الذي يرى الطفل المتوحش وحده. عندما يصل إلى مرحلة الرجولة، يغادره ذلك الطفل دون رجعة، إلّا أنه يستعيده أحيانًا في أحلامه. بعدها نرى أوفيد وهو يستعيد حياته قبيل النّفي، حيث تحوّل إلى «كائن اجتماعي» ودخل عصر «الصفاقة الماهرة» وفقد إحساسه بالكون كشاعر. كل ذلك كان الطريق لكي يخسر طفله الخاص أكثر فأكثر. وهكذا تجيء تجربة النّفي لتكون الخطوة الأكثر بهاء نحو استعادة روحه المفقودة.
في هذا العالم يبدأ أوفيد الذي علاه الصدأ، بإعادة علاقته بالكائنات تدريجيًا، وتتطور صلته بالمخلوقات، وبالبشر أيضًا، حتى يجد نفسه أخيرًا في الخنادق يدافع عن القرية التي يسكنها، القرية المكونة من 100 كوخ، ويقف في وجه البرابرة الزاحفين.
«لم تكن لي، البتة، صلة بالمخلوقات قبل هذه، حتى ولا الكلاب أو القطط. الآن أجد فيها شيئًا غريبًا قابلًا للعلاقة. فهي مثلي غير قادرة على الكلام، إنها تتحرّك بين الشقوق، في فجوات حيواتنا، وهي غير ضارّة. حتى العناكب، هذه المخلوقات البائسة، أتساءل إن كانت لديها لغة خاصة، كي أحاول أن أتعلّمها».
هنا يكتشف أوفيد أن عليه أن يتعلّم كل شيء كما لو أنه طفل. ومن هذه النقطة بالذات تبدأ محاولاته لاستعادة طزاجته.
هكذا.. يكون أوفيد أول شخص يرى الطفل الوحشيّ الذي يسكن الغابة، خلال رحلة صيد مع أفراد القرية. وحين يتمّ إلقاء القبض على الطفل، فإن أمر رعايته يوكل إلى أوفيد نفسه، أمام خشية أفراد القرية من أن تكون أرواح شريرة تسكن هذا الطفل، أو أن روحًا شريرة تقمّصت جسده على هيئة إنسان. لكن مرض حفيد شيخ القرية، ثم شيخ القرية نفسه، ووفاته، يجعل أوفيد الذي أدرك قبيل الوفاة أن أهل القرية سيحمّلون الطفل مسؤولية وفاة شيخهم، أمور تدفعه للهرب مع الطفل الذي كان قد أصبح مألوفًا إليه. وفي رحلة الهرب، استعادة لذلك الجزء الضائع من شخصية أوفيد، حيث يرى التكامل الحقيقي بين ما هو إنساني فيه وما هو وحشي في الطفل. وهكذا يحقق أوفيد توازن روحه المفقود، عندما أخذ حفنة من هذا التراب، واشتم روائحها الرائعة: «أعرف فجأة ما أنا مكوّن منه، كأن هذه القبضة من التراب الأسود فَتحتْ بغتة، بين جسمي وبينها وبين سيقان العشب، ممرًا تجري فيه كينونتنا المشتركة… صرت أكثر شجاعة في شيخوختي، مستعدًا أخيرًا لكل التغيرّات التي يجب أن نمرّ بها عندما نسمح، وبألم، لأطرافنا أن تنفجر في شكل جديد».
لذا، فإن الفرح الغامر الذي يكتشفه أوفيد في نهاية الرواية، هو الجوهرة التي كان لا بدّ أن يجدها وقد استعاد طزاجة روحه؛ وهل يستطيع الشاعر أن يكتب بروح صدئة؟
يقول أوفيد: إنه الصيف/ إنه الربيع/ وأنا سعيد إلى حدّ لا يقاس/ إلى حدّ لا يحتمل/ أنا في الثالثة من عمري/ أنا في الستين/ أنا في السادسة/ أنا هناك.
وبعــد:
«هذا هو الكتاب الأكثر تحضُّرًا، والمدوّن ببساطة وبهاء، هو من كلاسيكيات عصرنا، وسيظل على الدوام عملًا كلاسيكيًا»، هكذا تصف مجلة الكتاب الأسترالي رواية «حياة متخيّلة»، هذه الرواية التي تُلغي المسافة الفاصلة بين الشعر والرواية على نحو نادر.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد