عائلة سورية تفطر فوق أنقاض منزلها المدمر .. مريم مشتاوي

mainThumb

14-05-2020 04:42 AM

حين كنت صغيرة أخبرتني جدتي أن الحجارة التي تستخدم في بناء البيوت في ضيعتنا مستوردة من الجنة. وهي تبكي حين يمرض سكانها.. فجدتي رأت ذلك بأم عينها.
حكت لي عن مرض جارتها، التي توفيت قبل ولادتي. وكانت من أعز صديقاتها. فحين اشتد المرض عليها رأت جدتي حيطان البيت تبكيها.. وحين توفيت انفجرت ساقية من الحائط، الذي كانت تسند رأسها عليه لتنام. لذلك اكتسبت جدتي عادة دائمة، وهي أن تحمل البخور عند الفجر وتمشي به في البيت تسبيحًا وإجلالًا للجمال الروحاني المتغلغل في حجارته.
إنها حجارة مسكونة بأرواح طاهرة. بأناس نحبهم. بصور الماضي. حجارة تضج بذكريات الأمس.
أذكر جيداً زواريب ضيعتنا لأني لطالما شعرت أن هناك حيوات أخرى قديمة تخفق تحتها. أشخاص مضوا، ولكنهم تركوا قبلاتهم تنبض دفئاً فوق الأبواب وعلى الشبابيك. أناس رحلوا وبقيت ذكرياتهم تحيط بالمكان وتستدرج الحاضر إليها.
“كفتون” هي ضيعتي، التي لم أتوقف عن زيارتها في كل مرة يشتد الشوق بي إلى أيام البراءة الأولى. هناك بين أحراجها أبكي بحرية مطلقة، ربما لأني أسمع طيبة الأرض تندهني.
أهو البكاء على الأطلال؟ تلك الظاهرة البديعة، التي اعتاد أن يفتتح بها شعراء الجاهلية قصائدهم الخالدة، التي ما تزال تهز أعماقنا، وتوقف الشعر على رؤوسنا، رغم القرون، التي تفصلنا، وتغير الزمان والمكان.
كنت وما زلت من أشد المعجبين بالشعر الجاهلي وباستهلال كل قصيدة فيه بذلك البكاء الحلو..
ألم يقل غوته: البشر الطيبون يبكون؟
لطالما آمنت أن البكاء نوع من التطهر، واغتسال الروح.
إنه نتيجة لحظات من التماهي مع الجمال. فالبكاء فوق أرض نحبها يشبه قداديس صاعدة من الوديان متدفقة مع ضوء الأنهار.
عاد لي ذاك المشهد من جديد وأنا أتابع حكاية شغلت مؤخراً الفضائيات العربية. فقد عرضت قناة “بي بي سي” عربي وقناة “أم تي في” اللبنانية قصة عائلة سورية نزحت من بيتها في ريف إدلب بعد اشتداد القصف المجنون بالطائرات والبراميل المتفجرة، والدمار الشامل، الذي سببه، والذي أودى بأرواح بريئة لا تحصى ولا تعد، وأطاح بالبيوت وأرداها تراباً وحجارة مبعثرة.
غابت تلك العائلة عن أرضها لزمن طويل. وجاء رمضان شهر الصيام والصلاة واجتماع الأسرة الواحدة حول موائد الطعام.. ولكن هذه السنة لم تشتعل السماء بالأضواء الملونة والفوانيس الرمضانية بأحجامها المختلفة.
وخلت من الدعوات العائلية والإفطار مع الأصدقاء، ومن تلك الأجواء الجميلة الدافئة السعيدة، التي كان الصائمون يحرصون على أن لا تفارق جدران بيوتهم طيلة الشهر الكريم.
ولكن ألم يكن الإيمان دائما وفي كل أنواعه المحرك الأساسي للحياة؟
كان الإفطار في شمال سوريا، وتحديداً في ريف إدلب، مختلفاً جداً هذه السنة. وذلك بسبب الدمار الشامل الذي خلفته الصواريخ المتساقطة على البشر والحجر. ولكن وبالرغم من الخراب الرهيب،
قررت عائلة طارق أبو زياد العودة، ولو ليوم واحد، إلى بيتها المنكوب والإفطار فوق أطلال بقايا سطح منزلها في أريحا، إحدى بلدات محافظة إدلب. افترشت العائلة سجادة ملونة وضعتها على سقف المنزل المدمر، وذلك وسط ركام المحيط بالمكان وأنقاض أبنية طغى عليها لون الأسفلت الرمادي.
أرادت تلك العائلة المنكوبة العودة إلى ذكرياتها إلى روائح الحنين المختبئة بين الحجارة، وإلى أحلام دفنت تحت أنقاضها.
هل عادت لتسترجع بعضاً منها؟
هناك جلس أفراد العائلة وفطروا معاً فوق آثار ما تبقى من ديار أحبوها.
قال طارق أبو زياد “حبينا نحيي ذكرى يوم برمضان لنتذكر أيام رمضان الماضية يلي قضيناها ببيتنا. أنا وأهلي هوني فوق الدمار عم نعيش ذكرى صعبة ومؤلمة.
وقالت أم طارق “بلدنا غير.. هواها غير.. هون حارتنا.. هون حارة أهلي.. هون ولادي.. هون مشينا”.
نعم بلادنا “غير”، وستكون بألف خير حين تتخلص من الطغاة والسارقين والقاتلين والمحتلين.
صرخة أم طارق ما هي إلا صرخة حياة ليت السماء تسمعها يوماً.
كم من عائلة سورية وفلسطينية ويمنية تعيش فوق أطلال بيوتها، وتحلم بأن تنهض مبانيها من جديد؟
أيام الحروب والمرض والموت والخوف ستمضي كسرب غربان لا أهمية لنهاية مساره في الأفق طالما أنّ السماء ستبقى زرقاء متسعة لأحلام الناس بحجر راسخ وأوطان آمنة، فيها فسحة للأحلام والآمال الصغيرة، التي لا تزيد عن حجم العصافير.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد