مصر تدخل مرحلة التدمير الذاتي .. إسماعيل القاسمي الحسني

mainThumb

27-01-2015 08:45 PM

لدينا نحن طبقة الفلاحين وسواد الناس مثلٌ بليغ، يجمع في تصوري خلاصة العلم والمعرفة، يقول: اسأل مُجرب ولا تسأل الطبيب. يقال هذا المثل نصيحة لمن لم تسبق له تجربة، حتى وإن جمع علوم الدنيا كلها على المستوى “النظري”، تبقى التجربة هي القاعدة الفاصلة، والمرجعية الأساسية، لكونها خلصت إلى القواعد الأصيلة للعلم، واستخلصت النتائج الواقعية الملموسة؛     وإنه لمن المؤسف حقا أن يمضي عموم الأشقاء في المشرق العربي، وبالأخص منهم في مصر تجاهل التجارب الإنسانية لدى الغير لمجرد المكابرة، على اعتبار أنهم سادة العلم والمعرفة      وحواضن الحضارات وما إلى ذلك من أوسمة صدئة، لا تقدم في واقع الأمر بقدر ما تخدر العقل وتكتم أنفاس الفكر وتشل حركته، حتى وإن اقتضت منهم الحال مناطحة المثل الشهير لديهم ” من يجرب المجرب عقله مخرب”.
 
ويؤسفني كذلك القول: أن النخب في مصر بكل ألوانها، لم تعد تعكس على الاطلاق صورة مصر الحضارة والعلم والمعرفة والجمال الساحر، ولعل شبه “الكمال” الذي عُرف عن مصر، واحد من أسباب ما آل إليه منطق بعض العقول في تقدير الواقع وتداعياته، ذلك أن ما ترسخ في مخيال القوم لم يعد له أثر اليوم، ولا أبالغ إذا قلت أن ولعهم بالصورة المتوهمة، التي ينظرون إليها يوميا في حالة افتتان، أشبه بما حدث للشاب ناركسوس كما تروي الأسطورة اليونانية،  الذي سحرته صورة وجهه التي يعكسها سطح الماء، وحاول الإمساك بها فمات غريقا، ويقال أن النرجسية (حب الذات) هي نسبة لبطل هذه الأسطورة.
 
لقد تجاوزت هذه الحالة المرضية لدى النخب، ما أصاب أشقاء الشعب المصري من ضرر بالغ  وتصدع في العلاقات، سواء مع الشعب الجزائري أوالمغربي، ولم يسلم حتى الشعب الفلسطيني على ما يتجرع من هموم؛ لتنقلب (هذه الحالة المرضية) منذ عام أويزيد، على مكون هام من الشعب المصري ذاته، وعضومن جسدها لا يمكن بحال من الأحوال بتره، لينزلق هذا السلوك الغير مسؤول، بالبلد إلى حافة الهاوية.
 
حين نقول التجربة، فذلك لأننا أشرنا في مقالات سابقة عديدة، إلى ما ستؤول إليه أحوال مصر بداية من ثورة 25 يناير إلى غاية الانقلاب المبطن بثورة شعبية مصنعة سلفا، ساهمت في تدحرجها كل النخب، بما فيها السياسية المعارضة قبل ثورة 25 وبعدها، والتي لم تستطع اليوم حتى الاحتفال بذكرى ثورتهم المجيدة، فضلا عن الإعلاميين وبقية الأدوات التي لم تدخر جهدا في رسم واقع بائس وتعيس للشعب المصري، بل أنتجت صورة باتت مدعاة الاشمئزاز لدى معظم المتابعين للمشهد المصري.
 
هنا يجب التنبيه لكون الكاتب يختلف مع تنظيم “الإخوان المسلمين” على الصعيد الفكري والسياسي، إذن لا مقام لكيل الاتهامات، ولا أرى ضرورة لاستجداء شهادة تقديري وحبي لمصر أرضا وشعبا من أي شخصية مصرية، وأعتقد جازما أن أبناء الأمة جميعا يحملون ذات الحب والتقدير للشعب المصري، ولا يبحثون على ختم مصري يمهر هذا الأمر ويزكي مصداقيته؛ وإذ نعبر عن موقفنا وتصورنا لما هوقادم، فإنما دفاعا عن مصر وحبا لها وفيها؛ فلا تتذرع طبقة النخبة المصرية بالشعب، وليس من المنطق في شيء أن تجعل منه درعا مستهدفا، تختفي من جبنها وراءه، تفاديا لسهام تطالها بالنقد، وتحمّلها هي وليس الشعب مسؤولية ما بلغته مصر من تراجع مخيف، وضعف مزري، وخطر التشظي الذي يلوح في الأفق القريب.
 
لقد أخذت المؤسسة العسكرية المصرية التجربة الجزائرية 1992، بعين الاعتبار ومضت مع التيار الاسلماوي إلى انتخابات نزيهة، أفضت لتقلد الدكتور محمد مرسي منصب الرئاسة، وإن تجنبت المؤسسة العسكرية الانقلاب المباشر، كما حدث في الجزائر، غير أنها وظفت كل النخب بما فيها ما يسمى بالمعارضة، لصناعة ظرف يستوجب الإطاحة بالرئيس، وساهم في إعطاء الحجج الرئيس نفسه بأخطائه، وأججها تياره بقوه، ومن المؤسف حينها ألا أحد من الأطراف المصرية أخذ نصيحتنا مأخذ الجد؛ ولنا أن نلاحظ كما كل المراقبين في العالم للشأن المصري، وبكل نزاهة ذلكم الفارق في حركة الشارع، التي كانت تقودها النخب في النصف الأول من حكم الدكتور مرسي، وحركتها اليوم وقد مضى نصف عام على تولي الجنرال السيسي مقاليد الحكم بشكل رسمي كرئيس للجمهورية.
 
أذكر ولا احد يمكنه إنكار هذه الحقيقة، أنه ومن اليوم الأول الذي استلم فيه مرسي الرئاسة،      ومعظم وسائل الإعلام وماكينتها الرهيبة تشحن الشارع ضده، واستعملت أقذر الأساليب        وحتى التعبير تجاوز كل أصول المهنة، بل كل قواعد الشرف والأخلاق والقيّم، وكان قادة الأحزاب والرموز السياسية ورؤساء النقابات، أغلبهم في الشارع وبشكل يومي؛ (أكثر من 360 مظاهرة)، وأذكر من بين الحماقات في ظل تلكم الظروف، وبعد مرور ثلاثة أشهر فقط على تولى مرسي مسؤولية تركة هائلة من الفساد والإفلاس، يعود عمرها لنصف قرن، نصب القوم محاكم التفتيش في الإعلام وفي الشارع، تطالب بحصيلة عمل الرئيس المنتخب “الاخونجي”، مهزلة ما بعدها مهزلة، واستخفوا بعقول العامة فدفعوا بها إلى الطرقات والميادين؛ أين السيد حمدين صباحي والبرادعي وعمروموسى؟ أين اختفى عبد الفتوح وجحا وجحجوح وعبد الرجوح؟ أين تلكم الوجوه التي كانت تملأ الدنيا صخبا وضجيجا؟. أليس من سفه العقل كما نسمع اليوم، أن تحصر كل هموم مصر ومشاكلها في عام حكم محمد مرسي!!! ويخرج اليوم من أطاحت به ثورة 25 يناير وكل طاقمه أبرياء من أي مسؤولية لما آلت إليه مصر، وقد حكمها 32 عاما؟ أي عقل يصدق هذا العبث ؟ ثم ها قد مضى نصف عام فماذا قدم السيسي اليوم لمصر؟ أم أن البزة العسكرية فوق المحاسبة؟. المشهد مأساوي ومعيب في حق مصر بكل صراحة وصدق.
 
لن أقول ماذا كانت لتفعل هذه النخب لوقُتل في تجمع على عهد مرسي عدد من قتل في رابعة؟  ولن اسأل هنا عن موقفهم لوقتلت على عهده مثل شيماء الصباغ؟ أوسجن حقوقيون؟ والأمثلة لا تعد ولا تحصى، وإنما ما استوقفني تصريح الرئيس الحالي نفسه في نيويورك حين اعتبر أن 300 ألف أو400 ألف لا يمكنهم الوقوف في وجه الشعب المصري، في إشارة لتنظيم الإخوان المسلمين؛ ولا أدري والحال أن تقارير مصرية ودولية تتحدث عن 40 ألف معتقل سياسي، هل تعي جيدا النخب في مصر، حجم الكارثة التي هم ماضون إليها بهذا الأسلوب؟
 
إن أربعين ألفا لا تعني عشرة أضعافها في مجتمع عربي لمن يعقل، اللهم إلا إذا كان المراد بهم الأقارب من الدرجة الأولى، غير أن واقع المجتمع العربي يفرض اعتبار الدرجتين الثانية والثالثة من القرابة، ما يعني على الأقل 10% من الشعب المصري، يضاف إليها نسبة المتعاطفين مع هذا التيار، والتي تزيد عن 20% من عدد المُصوّتين وفق ما أقر به نظام الحكم القائم الآن؛ وبغض النظر إن كانت تقف في وجه الشعب المصري أم لا، وهل ذلك من برنامجها ونية أصحابها، فمما لا يختلف بشأنه عاقلان، أن التعامل مع هذا الوعاء البشري على اعتباره عدوا، يجب إبادته وإن اقتضى الأمر العمل المسلح، وأحكام الإعدام المشبوهة بعشرات المئات، بأنه ضرب من الجنون، وطريق واحد لا مخرج منه نحوالهاوية ولا شيء غيرها في نهايته.
 
لا أريد العودة لمقالاتي السابقة التي أشرت في حينها لما ستؤول إليه أوضاع مصر، وإنما أرجوأن تسجل النخب المصرية لديها اليوم الآتي: لقد عدتم (أنتم وليس الشعب المصري) بمصر إلى الوراء، أكثر بكثير مما كانت عليه قبل 25 يناير 2011، في كل المستويات وفي جميع مناحي الحياة، والادعاء بأن سبب ذلك حكم “الإخوان المسلمين” لمدة عام، ضرب من الهلوسة العقلية، ولا شك أنه دليل على ارتجاج في خلايا الدماغ.
 
لا أخفي هنا أني لا أملك أملا في تجنيب مصر من حالة التشظي القادمة؛ فقد أثبتت أحكام البراءة بحق الرئيس المخلوع وأتباعه وبنيه، بأن نظام الحكم الذي استهدفت ثورة 25 يناير الإطاحة به، مازال حيا وقويا، بل وله الجرأة على مواجهة العالم بمشهد مقلوب، أخطر تجلياته سجن شباب الثورة إلى اليوم، وتبرئة من نودي بالإطاحة بهم.
 
لا مخرج لمصر في تصوري إلا بشحذ همم خيرة رجالها ونسائها، لخلق وبشكل عاجل فضاء تصالحيا، يرتكز على إصلاح مكونات المشهد السياسي وكل أطر النخب، ومراجعة جدية تعتمد النقد الذاتي لكل مكون، أيا كان تقديره لحجم تمثيله للشارع المصري؛ وضرورة نفض اليد من الارتهان إلى المال الأجنبي عربيا كان أوغربيا، والتعويل على الشعب المصري بعد استقرار الأمن، الذي لا يتأتى إلا بضمان العدل للجميع؛ تبدوهذه العناوين على صحتها وضرورتها مجرد لوحة سريالية في عقول طبقة النخبة الحالية، وتصويرا طوباويا لا يعدوكونه من خزعبلات توماس مور؛ هذا ما يجعلني لا أملك أملا، وأرى بأن مصر مقبلة على مرحلة بالغة الخطر، يمكن وصفها بحالة التدمير الذاتي، ولا شك لدي أن القوى العظمى ستعمل بدهائها على ألا يتخطى أثر الانهيار، وتشظي هذه الدولة إلى الجزيرة العربية، فضلا عن تداعيات يمكن أن تهدد كيان العدوالإسرائيلي؛ وفي النهاية مصر ضعيفة أومتهاوية لا يعني العالم في شيء، ما لم يخرج تأثيره عن الحدود الجغرافية شرقا بالخصوص؛ لم يعد تساؤلي حول متى يكون الإعلان الرسمي لإفلاس الدولة المصرية، فهذا بات واقعا لا تخطئه عين متابع، والبناء على وعود المساعدات الخليجية، مجرد وهم يلاحقه حالم لينتهي لسراب بقيعة، وإنما التساؤل حول خطأ هذه القراءة، الذي وإن كنت أرجوه فإنه متعذر علي رده أوإنكاره، ذات الشعور الذي انتابني عند كتابة مقال بعد ستة أشهر من حكم مرسي، وقلت فيه حينها إن مصر مقبلة على انقلاب عسكري، وسنرى بأم أعيننا سيارات مفخخة ودماء وأشلاء ومنع التجول وحالة الطوارئ    والمدرعات والدبابات تملأ شوارع العاصمة وغيرها مما نشاهده اليوم فعلا؛ ولكم أتمنى هذه المرة ألا تتشظى مصر وتدخل فعليا في حالة التدمير الذاتي على أيدي  وبحماقات نخبها ….كل نخبها.
 
ليس من حصافة العقل ولا هومن المنطق في شيء، مواصلة النظر إلى وجه مصر على سطح ماء آسن أصلا، أوفي الصحافة الأمريكية والبريطانية، وإنما شاءت النخبة المصرية بكل تفاصيلها أم أبت، نحن هم المرآة الأصيلة التي يجب أن ينظروا فيها لتقاطيع وجه مصر الحالي بأدق تفاصيلها، وتقاسيمه التي وبكل مرارة وحزن نقول: إنها لا تبشر بخير؛ وخلاف التجربة الجزائرية،  التي تميزت في مرحلتها بهدوء محيطها الإقليمي الذي ساعدها إلى حد بعيد في تخطي أزمتها، وتجنب حالة التفتت والانهيار، فضلا عن قدرتها المالية الصلبة، والتي شكلت رافعة مهمة للامساك بالوضع والحيلولة دون تدحرجه، كما لم تكن الجزائر مخترقة بذات الدرجة التي عليها مصر؛ لهذا فالتعويل على أن الأمر سينتهي إلى ذات ما انتهى إليه في الجزائر، تقدير خاطئٌ بشكل واضح وجلي. فمحيط مصر ملتهب بشكل مخيف غربا وشرقا،  وخزائنها فارغة بل ترزح تحت وطأة الديون، ما جعلها رهينة لدى الدائنين وما يسمى بالمساعدين، ورقعة الفقر داخلها تتمدد بصورة سريعة ومخيفة، وهذه عوامل كافية لتفجير الوضع من الداخل، خاصة وضغط سياسة القبضة الحديدية لدى طرفي النزاع في ارتفاع مضطرد.
 
نسأل الله السلامة لمصر أرضا وشعبا.. وإن كان الدعاء لوحده لا يجدي نفعا.
الفلاح الجزائري – (رأي اليوم)
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد