"احاديث الذكريات في الحياة والسياسة والأدب"
للخروج من ضوضاء المدينة وضغوطات الحياة تحتاج لحكاية محفولة براحة البال ومتصلة بأجمل الذكريات مع من تحب دون منغصات قد تقفل عليك الشرفات المفتوحة على الأفق، فتمر عنك الريح لتأخذ البهجة على متنها فتمضي بعيداً فيما يعج على أثرها غبار الوحدة والكمد.. وكان لا بد من قلب جميل يبادر إلى تهيئة جنة هذا اللقاء في مسائها الجميل كي تليق بالمناسبة التي جعلت تتكرر كل عام..
فكان على صاحب هذه الدعوة الكريمة تجهيز النهر وإعداد المراكب وتفجير الينابيع وفتح النوافذ على الأفق، وإعداد المائدة بما لذ وطاب، ورسم وردة الروح على محياه ليمضي بضيوفه من أبناء وأحفاد الحاج أبو بكر إلى جزيرة تنأى باللقاء عن زحمة المدينة الخانقة.. هذا هو أخي رجل الأعمال المهندس عمر السباتين المثقف والإنسان.. صاحب الطلة البهية والقلب الجميل المظلل بسنديانة الروح وكبرياء النخيل، فكانت دعوته الجميلة السنوية لشباب العائلة..كأنهم باقة من شقائق النعمان التي ازدادت حمرتها جمالاً في أجواء الأضواء الخافتة بقرية النخيل قرب مرج الحمام، وعلى تقاسيم العود والغناء الطربي الأصيل وقرقرة الاراجيل المنكهة برائحة المعسل الطيب، المتمازج مع أريج المودة والهيل المنبعثان من فناجين القهوة وهي ترتشف من شفاه تتلمظ طعمها، والأحاديث المتبادلة بين الأصحاب، كأنه موسم نوار اللوز الأبيض لقلوب تفتحت على الأفنان.
كان إلى جواري على اليمين خالي ورفيق عمري، صاحب الباع الطويل في العمل التطوعي من خلال العديد من الجمعيات الخيرية التي ساهم في تأسيسها وإدارتها في جبل النظيف ( الاستاذ يوسف سربل )،الذي تتشابك حياته بكل تفاصيل ذاكرتي المليئة بمغامرات الصبا البريئة، فيما جلس إلى يميني صاحب الدعوة شقيقي عمر السباتين الذي أعادنا إلى مرابع الطفولة.. وكان ثلاثتنا من طلاب مدارس وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين في الأشرافية في ذلك الزمن الجميل الذي خلت اجواؤه من الخيانات وسوء الأخلاق.. فاستعدنا في جلسة يغمرها الحنين، أجمل الذكريات.. مسترجعين حكايات جدي المرحوم اسماعيل سربل ذلك الوجيه الكادح الذي أنفت مواقفه الرياء، ووالدي الذي ما زال منهلنا للوطنية والثبات على حب فلسطين.. وأثناء حديثنا المتشعب الطويل كانت قلوبنا تدندن بأغاني سميرة توفيق ومحمد وهيب وجميل العاص ونتلمس فطرية عبده موسى وهيام يونس وأبو عرب والعاشقين، أولئك الذين ترعرع معظمهم في كنف الثقافة الاردنية وإعلامها الأجمل..وكان حديثنا عن شقاوة الصبا مع خالي قد أخذنا إلى رحلاتنا المشتركة إلى وادي السير حينما كانت الجداول عامرة بالمياه الدفاقة وهي تحاور زهرة النور فتكتحل بجمالها عيون المارة، كانت مظللة بغابات الصنوبر وكروم العنب وأشجار التين المعمرة، ثم عرجت بنا الذاكرة إلى صاحب الدعوة أبو نضال، وقد كان متفوقا في دراسته، وكيف أن مدرسيه كانوا يتسابقون على استغلال موهبته في الخطابة وإلقاء الشعر الوطني في زمن أبي سلمى وهارون هاشم رشيد درويش، مستنجدين أحياناً بقدرته الفائقة على إلقاء الخطب الرنانة في احتفالات المدرسة، وقد حصل ذات الشيء معه حينما تغيب إمام مسجد طارق بن زياد بجبل النظيف عن الحضور، وللخروج من هذا الموقف المحرج؛ استنجد به معارفه من المصلين آنذاك حيث اثبت لهم كيف أن الصغار يتفوقون على الكبار في الخطابة أحيانا.. ورغم ذلك أخذتنا السياسة إلى متاهتها، وأعجبني رأي أبو نضال بكونه خبيراً اقتصاديا فيما يتعلق بقناة البحرين التي ستمتد من خليج العقبة حتى البحر الميت، وهذا في تقديره قد لا يشكل خطرا اقتصاديا على مكانة البحر الميت لاحتفاظه على مستوى التركيز الملحي الذي يؤهله لتزويد الصناعات الاستخراجية بالمواد الأولية، وهذا بالطبع لن يقلل من نسبة الملح فيه. رغم وجود ذلك الفرق الشاسع بين نسبة ٣٪ للملح في البحر الأحمر إلى نسبة ١٧٪ في البحر الميت التي أهلت الأخير ليكون مصدرا للاملاح الصناعية كالبوتاسيوم وكلوريد الصوديوم والبرومين، وذلك باحتساب النسبة التعويضية من تدفق المياه إلى ما يتبخر سنويا من مياه البحر الميت، في حين أن محطات تحلية مياه البحر القادمة من الجنوب ستزيد من نسبة تركيز الأملاح إلى قريب ال ١٠٪، والمفارقة في الأمر تكمن في أن الكيان الإسرائيلي طلب احتكار المياه المحلاة الناتجة عن هذا المشروع؛ لتزويد شمال فلسطين المحتلة بمياه الشرب، ومنح نسبة الأردن المستحقة، من مياه بحيرة طبريا (الملوثة) بعد تحليتها بطرق وتقنيات حديث.
وقد طرح العطاء على مئات الشركات العالمية،،منها واحدة إسرائيلبة، دون مشاركة أردنية تذكر. لذلك ربطت في سياق حديثنا بين مصادقة مجلس النواب على قانون صندوق الاستثمار " المشبوه" الذي سيمهد إلى نوع من الإئتلاف بين الشركات الإسرائيلية من جهة،والعربية المطبعة من جهة أخرى، لتنفيذ مشروع قناة البحرين، وخاصة في المحاصصة ما بين الشركات المحلية لدي الشريكين الاستراتيجيين في هذا المشروع (المشبوه) للاستحواذ على عقود المقاولات الفرعية واللوجستية.. في اطار نكبة تطبيعية ستدفع القضية الفلسطينية ثمنها.
وكنت اثناء تصفحي لوجوه شباب العائلة الرافضين للتطبيع بكل المقاييس؛ ازداد ثقة في ان المستقبل منذور للحقيقة وهو في أياد أمينة.
وأخيرا.. صاح الديك اذناً بخاتمة هذه السهرة المدهشة، ثم عدنا الأدراج إلى بيوتنا فنمنا نوماً عميقا، وقد أكسبتنا هذه السهرة الجميلة طاقة كامنة ستعزز بلا ريب من صمودنا في وجه الريح؛ لتبقينا على تواصل مستمر مع الأفق..