الهروب إلى الماضي - أمينة خيري

mainThumb

25-09-2016 09:46 AM

ما زال الهروب إلى الماضي هو الحيلة الأفضل، ليس فقط لسهولتها، إنما لأنها الوحيدة المتاحة لدى الغالبية التي لا تملك من قرار يومها شيئاً. فبعد نحو 6 سنوات من العواصف والبراكين السياسية، يجد المشاهد العربي نفسه حبيس الماضي. الغالبية انغمست في أحداث بلادها الآنية من انتفاضات وثورات، مع آمال محلقة بأن المستقبل في ظل الديموقراطية الموعودة مشرق. وأمضت هذه الغالبية أشهراً مثبتة أمام الشاشات تتابع بلورة أحلامها عبر انتشار فيروس الثورة الحميد وانتقال عدوى التغيير. وخرجت الغالبية من انغماسها، بعد أشهر وربما سنوات، وقد أفاقت على بعثرة أمانيها وتبخر أحلامها، وشهد شاهد من شاشاتها، حيث أخبار التفجيرات والاغتيالات المتواترة، مرةً عبر تنويه خبر «عاجل» المرعب، ومرات على الشريط الخبري الراكض أسفل الشاشة في صراع مع الوقت لدس أكبر كمية ممكنة من أخبار القتل والدمار.

 

ولأن الأخبار العاجلة والمناطق الملتهبة تجذب الأنظار وتضمن ارتفاع نسب المشاهدات، فقد ظل المشاهد العربي على التصاقه الحميم بالشاشات حيث أدرينالين الإثارة ينافس أدرينالين الخوف. ولكن نفد الأدرينالين، ولم تنفد الاقتتالات، فتململ من تبقى من مشاهدين لم يطرقوا باب اللجوء، أو يجربوا طريق النزوح، أو تطاولهم طلقات الاقتتال. منهم من قاطع الأخبار، ومنهم من عادى برامج الحوار، وحيث إن سبل الترفيه لم تعد متاحة، وبدائل المشاهدة التلفزيونية لم تعد آمنة، فقد وجد المشاهد نفسه عائداً إلى كنبته يجر أذيال الخيبة ويبحث عن بدائل عبر جهاز التلفزيون، لكن من دون الاقتراب من قنوات الأخبار العاجلة منها والآنية.
 
وبعدما تم تدشين قنوات «كلاسيك» و«زمان» وغيرهما موجهة إلى الكهول ممن ما زالوا على قيد الحياة والراغبين في استرجاع ذكرياتهم في زمن أفلام الأبيض والأسود وحفلات «الست» أم كلثوم وعباقرة الغناء، تمددت قاعدة المشاهدة لتحتضن الهاربين من جحيم الحاضر والباحثين عن مأوى في الماضي. جانب من الهاربين من جيل الوسط كان ينفر من أفلام الأبيض والأسود ولا يطرب للست وأقرانها. فحتى زمن قريب كان يتم تصنيفهم باعتبارهم «دقة قديمة». لكن دواعي هروب الأمس هي عوامل الجذب اليوم. فـ «الدقة القديمة» صارت حائط صد.
 
ليس هذا فقط، بل لوحظ تسلل عناصر من الأجيال الصغيرة إلى حيز الشاشات التي تعيش على التنقيب في فنون الماضي. وما قناة «ماسبيرو زمان» التي تعرض برامج وأفلاماً ومسلسلات وحوارات وحتى الآذان من قلب مصر في ستينات القرن العشرين، إلا نموذجاً ينضح بحنين متزايد للماضي، لا من قبل الشيوخ والعجائز، أو حتى من جيل الوسط، بل من قبل الأجيال الشابة والصغيرة التي صدعت رؤوسنا بالفجوة بين الكبار والصغار. وها هي تعاود الحديث عن فجوة كبيرة بين زمان والآن، لكن هذه المرة هو زمان أرقى وأحلى وأكثر أمناً من الآن!
 
 
نقلا عن صحيفة الحياة 
 
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
 
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد