زائر الفجر والسنونو

mainThumb

11-10-2017 11:27 AM

 الفصل الأول من رواية  جديدة لبكر السباتين 

 
    (١)
    طرق الباب  بشدة، الرياح في الخارج كانت متناوحة الصفير، والظلام المتباين في بهو المنزل أخذ في التآكل بفعل ضوء خافت جاء من المطبخ آخر الممر.
    ساور عصام شك بأمر الطارق الذي  باغته فجراً على غير موعد، حتى اهتزت أركانه من القلق "من تراه يكون! " 
    شعر بعقارب الساعة تدق في رأسه المضطرب ولهيب الثواني تلتهم هشيم أعصابه..
    "ماذا يريدون مني!؟"
    لم ينبس ببنت شفه، ولَم يفعل سوى أن سار على رؤوس قدميه متسحباً حتى صار خلف الباب، كانت دقات قلبه تتسارع، وجبينه يتصبب عرقاً.
    كتم أنفاسه حتى انتفخت أوداجه وهو يتلمس طريقه بين قطع الأثاث التي التهمتها أشباح الظلام بينما هو يتعوذ من الشيطان ويرجو الله أن يجمل الموقف العصيب بالستر، تسمر قليلاً أمام الباب، التقط أنفاسه اللاهثة حتى هجعت فرائصه المرتعدة.. ثم جعل يطوق  فتحة العين السحرية للباب بجفن عينه اليمنى، وراح بعد ذلك يستجلي أمر الطارق بعينيه المفزوعتين.. حيث لا أحد سوى أشباح بدا وكأن الرعد المتدحرج يطاردها تحت وميض البرق وهو يخترق نافذة بيت الدرج الضيقة، والتي جعلت ترتجف بفعل الرياح العاتية فتصدر قرقعة كأنها همهمة مجهولين يتربصون بعصام تساءل في سره : 
    "يبدو بأن الطارق قد غادر المكان".
    لذلك أخذ يصيخ السمع بحذر شديد، بغية التمكن من رصد خطوات الغريب التي تاهت صعودا ونزولاً حتى استقرت  في مكان ما، وبعد لحظات سمع باب السطح الحديدي يفتح بصعوبة، فيحدث صريراً مزعجاً، أعقبه تدحرجاً  مخيفاً لصوت الرعد كأنه انفجار قريب أصم أذنيه، فانتبه على ذلك ثم استقام مبتعداً بأذنه عن الباب.
    كان صوت المطر الغزير مفزعاً وسهامه تنقر القرميد الذي يغطي جملون السطح  الخارجي للمنزل الواقع في حي الفواخيري مقابل بحر عكا حيث تنتصب المنارة، وكانت الأشجار العارية تحتك بالجدران والنوافذ كأنها مخالب وحش تطارده الرياح، فيستيقظ في قلب عصام الواجف ذلك الخوف الذي واكبه طوال الفترة التي قضاها في السجن، حيث جرى اعتقاله في مثلً هذه الظروف..
    وفي غمرة ذلك المشهد المخيف الذي كان يحيط  بعصام  في ذلك الفجر المرعب انفتح على ذاكرته الملتهبة.. 
    وراحت تداهمه من تلقاء نفسها، فيزعجه ذلك الصرير الحاد لانفتاح صناديق تلك الذاكرة التي تداخلت في طياتها أفراحه وأتراحه، حتى أنه كان يتخيلها توابيتاً لمصاصي الدماء التي تتربص ببقايا دمه المجمد.. وتباغته تلك العبارة التي وجهها إليه ضابط التحقيق الإنجليزي أثناء التحقيق معه بعد أن أنهى حديثه بالإنجليزية مع أعوانه المتأهبين من حوله وعيونهم الزرقاء تقدح شرراً:
    "ما الذي كنت تفعله عند المنارة في مثل هذه الليلة الممطرة وبردها القارص، وكيف تبرر حدوث الانفجار في  منطقة لم يتواجد فيها عربي غيرك" 
    طبعاً هو لا ينسى كيف تبلم عاجزاً آنذاك عن الإجابة بينما الهراوي كانت تتهاوى عليه بقسوة، حتى أوشك أن يستجيب مهزوماً للضغوطات التي مورست عليها حينذاك فيعترف بالسر الذي أصر على كتمانه ، لولا أن يد الجلاد أصابها التعب والخذلان فسكتت عنه، ثم غاب حينها عن الوعي من جراء التعذيب الذي تعرض له، ونقل إلى عيادة السجن، وضمدت  جروحه المتقرحة التي تركت في وجهه ندوباً حتى اليوم. وبعد محاكمة ظالمة، حكم على عصام  مدة تسعة أعوام قضاها في سجن عكا بالقلعة وحيداً يعتصر قلبه الألم دون أن يصدقه أحد..  وفي غياهب ذلك السجن الرهيب لم يتمكن أحد من زيارته كونه كان  عريباً حيث قدم من يافا للتبضع،  ولا يعرف أحداً في عكا، وفِي غمرة اعتقاله ضاع المال الذي استأمنه عليه عمه صاحب الوكالة التجارية التي انتدبته إلى هنا، حتى عناوين التجار التي زوِّد  بها تخاطفتها الرياح وبللتها أمطار يناير الغزيرة.
    ويتذكر عصام حينها كيف انتهت السنة المالية للوكالة التجارية بالخسارة بعد إتمام الجرد السنوي لموجوداتها، ما استلزم من عم إخضاع المعنيين بالأمر للتحقيق حتى برئت ساحاتهم، ورغم ما آلت إليه نتائج التحقيق إلا أنه شعر بالغبن، فلم تعد له ثقة بأحد سوى بابن أخيه عصام، الذي اختفى في عكا دون أن يتبين له أثر.. وتمضي الأيام في السجن  على عصام بكل ما فيها من صراعات تلاطمت في رأسه المأزوم؛ ليخرج منه محطماً بعد انقضاء مدته القانونية.
    وكانت المفاجأة في أنْ وجد عصام العائد إلى أهله، سرادقَ العزاء منصوبة أمام بيت عمه الذي وافته المنية، فيدخل على جموع المعزين كالغريب بعد أن تحاذفته الاتهامات المشينة فسرت في حشاياه كالسكين، لكنه استعاد مكانته بعد أن وضعهم على حقيقة الأمر، وكان موقف عمه تجاهه مشرفا، ونيشاناً على صدره، إذْ لم يشك بأمره ولا لحظة واحدة،  رغم طنين المحرضين عليه من الوشاة، والذين اتهموه فيما بينهم بالجنون حينما فتح المحامي الوصية أمام المختار والأقارب البعيدين عنه، ليكتشفوا بأن أملاكه وثروته سجلت باسم ابن أخيه عصام ؛ وإذا لم يظهر الوريث خلال عام من تاريخه، تتحول الأملاك إلى وقف مسجد أبو نبوت، وتحت وصاية القائمين عليه.
    صحيح أن عصام نال حقوقه المشروعة كاملة كونه الوريث الوحيد لرجل ترمل في بداية حياته، لكنه ظل في نظر الوشاة سارقاً لمال عمه، وإن قصة سجنه كانت مفبركة وجزء من المكيدة،ما أثر سلبياً على تجارته، الأمر الذي دعاه لتصفية جميع أملاكه في يافا، وارتحل بعد ذلك إلى عكا، حيث فتح هناك محلاً تجارياً في  سوق  الازار قريباً من مسجد الجزار، مقابل القلعة حيث كان سجيناً في سراديبها.
    كيف ينسى ذلك المكان الكئيب الذي لولا قناديلهاالتي بددت عتمة السجن لمات قهراً.. كان يريد أن يعترف لها بما فعل لأجل حمايتها"كلانا شريك بالبطولة"
    هذا ما جرى بينهما ذات يوم! إنها  تلك الفتاة الملثمة  التي شاهدها عقب الانفجار الذي دمر حافلة عسكرية كانت تقف في الساحة المجاورة فوق القناطر البحرية، وكانت  تركض لاهثة باتجاه ساحة المنارة المنصوبة فوق برج السنجق؛ لكنها فوجئت بعصام الذي صم دوي الانفجار أذنيه، وهو متواري خلف  جدار الخندق الملتف حول قاعدة المنارة، هناك حيث تعثرت فهب لنجدتها، أثارت إعجابه فلمس يدها، ثم أبحر في عينيها اليقظتين، استعار نبضها، وتركها تهرب باتجاه حي الفواخيري حيث اختفت كقطرة دم في شرايين دلك الحي الذي أفزعه  دوي الانفجار، فلم يرغب أحد بالخروج كم يبدو لخطورة الموقف.
    وكان ارتباك عصام حينها بادياً عليه كونه غريباً قادته الرغبة الجامحة للتعرف على بحر عكا في مثل هذا اليوم العاصف، وكانت تحدوه الدهشة لاستملاك حالة  جعل يتخيلها في صوت الريح وهي تحرض البحر على الهيجان فتثير أمواجه، كأنه  صهيل خيول تئن لغزاة قهرتهم المدينة، وكان شيئاً انقضى سريعاً حينما انهزمت الرعود، وسحت السماء السوداء وابلاً من الأمطار، ثم تناهى إلى سمعه صوت الأذان من على مأذنة مسجد سنان في الميناء قبالة خان العمدان.
     لكن الانفجار كان قد خرب على عصام الموقف فنغص عليه حياته، وخاصة بعد أن داهمت قوات أمن الانتداب البريطاني مكان الحادث، وحينما وسعت من دائرة بحثها، وجدت عصام يركض تائهاً فتم اعتقاله.. هذا هو سر عصام الذي ما لبث يعيش تفاصيله، باحثاً عن الفتاة التي سجن لأجلها.. لكنه أيضاً ما يزال للحادث تداعياته على حياة عصام، فكثيراً ما كان يتعرض للمطاردة من قبل العصابات الصهيونية كونه تسبب في حادث انفجار الحافلة بمقتل بعض الجنود من اليهود المنتسبين للسرية اليهودية التابعة لجيش الانتداب البريطاني .. 
    من هنا سيطر على عصام الخوف وهو يُباغَتُ بالطرق على باب البيت فجراً، بينما  ما يزال واجماً أمام باب الدار من الداخل متمترساً بالصمت.
    لكن وجه الفتاة أخذ يشتد وطأة عليه، فيعزز طاقة التحدي في قلبه الواجف:
    افعل شيئاً يا جبان.. 
    هل كتب عليك أن تظل حبيس أشباح زرعها العدو في رأسك! 
    هذه يدك وعصا المكنسة إلى جوارك.. خيارات التصدي أمامك.. 
    مجرد أن تفتح الباب ستقف على الحقيقة.. 
    ثم ألا تخش على نفسك حقيقة أن ثمة غريب يصول ويجول في أملاكك!! 
    وشعر عصام إزاء ذلك بأن الفتاة الملثمة تشد على يده، ها هي تهمس في قلبه:
    "افتح الباب وهاجم الوهم الذي أورثك إياه السجن. 
    وفجأة! أصاخ عصام السمع من جديد.. لا أحد في الخارج سوى دويّ الرياح العاتية والمطر الغزير وفزعة الأشياء على وقعهما.. 
    سيفتح الباب إذن..
    وضع عصام يده المثلجة على مقبض الباب.. فإذ بيد أخرى تحركه بسرعة فأوشكت أن تخلعها.. فيسحب عصام يده بسرعة كأنها لذعة نار.. وانحبست أنفاسه حتى انتفخت أوداجه كديك الحبش..
    من تراه يتربص بي خلف الباب! أتراه منهم..
    وكان حينها يضرب كفاً خافت بكف، ويتمتم بسره وقد تبرعم الوجد في قلبه الواجف تجاه التي حفزت القوة في أعماقه التي فاضت بالدعاء والهديل، متناسياً أمر ما تخيله من أخطار محدقة به من قبل هذا الغريب، وشعر بغتة بالحاجة إلى تلك الفتاة الملثمة وجهل يخاطبها هامياً:
    "ورغم ذلك سأجدك في دروب المدينة .. فحياتنا وضعت على محك واحد"
    لكنه استعاد رباطة جأشه في محاولة منه ليتبين أمر زائر الفجر الغريب، فتح الباب بقوة، وبيده عصاة المكنسة، صارخاً:
    من بالباب!
    لا أحد سوى شيء سقط من الغريب فانحنى ليلتقطه والدهشة تأكل رأسه "أيعقل ذلك.. لا أصدق ما أرى!؟ "...
     ثم انطلق سريعاً في إثره والعصا بيده، صارخاًفي وجه الريح:قف يا هذا فأنا لا أريد بك شراً..
     ..............................
    إلى اللقاء في الفصل الثاني


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد