ماذا تبقى من العقد الاجتماعي بين العراقيين - حامد الكيلاني

mainThumb

17-03-2018 02:26 PM

 ل كلمة مسيئة تجاه أمّ أو أب ولو من أحد الأبناء في لحظة غضب أو تمرّد عاصف تُهدر بسببها دماء وأرواح لتعقبها أحزان وندم وضياع الأسرة بكاملها. إنه موروث نفسي تمتزج فيه عناصر التربية باليقين المطلق والخوف، بل الرعب من انكسار التعهدات وثيقة الصلة بالعقيدة، وبالتالي فقدان الرعاية والحماية من القانون والسلطة العليا المقدسة التي دونها يصبح الفرد المنتمي إليها مطرودا وعاقا يستحق العقاب بلا رأفة لمخالفته إياها وفي الحقيقة مخالفة النظام وتطبيق آلياته في التنفيذ.

 
ينسحب ذلك على التعايش بين العراقيين وعلى امتداد المنطقة بما تشهده من خروقات فادحة، إن في سوريا أو لبنان أو اليمن أو في ملحقات أخرى يراد لها ذات المصير.
 
في العراق هنالك قوميات وأديان ومذاهب وطوائف وإثنيات مختلفة ومتعددة، وكانت بينها خلافات أيضا؛ لكنها تحت سقف التوقعات وبما يقترب من ذات الخلافات بين القومية الواحدة أو الدين أو المذهب الواحد، أي إنها غالباً من نوع المشاكل في العلاقات الاجتماعية، كما يحصل في أي مجتمع على اختلاف معايير تقدّمه أو تراجعه.
 
هل كانت هناك تجاوزات، ولو بمستوى المزاح، للنيل من مقدّسات الآخر أو في صميم عقيدته مهما ابتعدت شكليات شعائر سلوكياته وتصرّفاته الجماعية إلى حدود استغراب الآخرين من حجم اللامنطق فيها؟ لم يحصل ما يوثق انتقاص فئة لفئة أخرى في الأعياد أو المناسبات الدينية، بل إن ما تسجله ذاكرتنا كشعب تؤكده المشاركة والابتهاج وأيضا تبادل المعلومات الدقيقة بما يخص تلك التقاليد تحسباً من الوقوع في سوء فهم غير مقصود، ينتهي دائماً بمزيد من الصداقات وتعميق المودة بين الجيران والأحياء المتجاورة أو حتى مع التجمّعات السكانية شبه الموحدة في المناطق البعيدة نسبياً عن مراكز المدن.
 
الخلافات التاريخية، إن وجدت، فإن التعبير عنها ينحسر في كتاب ما وبين من يقرأ كمعلومات وحب اطلاع أو ارتباط بعقيدة؛ لكن أن تتحول تلك القراءات إلى فعل وتطبيق خارج سياق الأمن المجتمعي فذلك من النادر اجتماعيا بحكم العقلاء الذين يكون تأثيرهم الاعتباري في مجتمعاتهم الخاصة أشدّ من المراكز الأمنية.
 
كان الحياء من الاتهام بعدم التحضر والجهل والأمية العامل الأول في كبت وانحسار الأزمة الطائفية في العراق، دون نسيان حضور الدولة في قمعها الإيجابي الذي يُدين ويمنع نشر أو تداول أو حتى الهمس بما يحرض على تفريغ حمولة مفرقعات النصوص وما بين سطور الاجتهاد في سرد حوادث الماضي إلى واقع الحياة، خشية عبور بعض المتطرفين الجهلة خط الممنوعات الذي تكوّن بتراكم الألفة والتعاون والتصاهر والتراحم في ما بينهم الذي ساهم في صياغة احترامهم لعقدهم الاجتماعي.
 
انفراط ذلك العقد الاجتماعي العظيم بين العراقيين حدث بغربلة سلطة الدولة وباهتزازات متعاقبة انتهت بالإبقاء على ما تخلّف من مشاريع الاحتلال الأميركي ونعني بهم دعاة المشروع الطائفي للنظام الإيراني أو دولة الولي الفقيه.
 
واقعة الطف واستشهاد الحسين وإعادة تجسيد أحداث تلك الواقعة، بما يعرف بـ”التشابيه”، كانت مناسبة لتوحيد العراقيين واستذكار الألم الذي يجمعهم ويطبع وحدة أحزانهم التي تتحوّل إلى تلبية للمبادئ العليا وتقاسم الدموع والطعام والتاريخ والوطن.
 
كيف تغيّر نداء “لبيّك يا حسين” بعد استلام الخميني للسلطة في إيران إلى مشروع ديني في خدمة الأهداف القومية لإمبراطورية ولاية الفقيه؟ والبداية في صادرات الثورة التي لم يستورد منها العراق والأمة العربية والعالم سوى الإرهاب والخراب والدمار والفتن التي سوّقت للحرب على العراق تحت مظلة تحرير كربلاء في تطبيق أولي لتلبية نداء “يا حسين” الذي عقدت به جباه الشباب الإيراني بلغتهم الفارسية “مسافر كربلاء” والذين قتلوا بالآلاف على تخوم حدود العراق.
 
المهم هو ما حدث لواقعة الطف وموكب السبايا في طريقه من الكوفة إلى الشام ودمشق في تطبيق عملي لإرهاب مشروع إيران الطائفي على ذات الطريق.
 
ولأننا استبقنا بعدم وجوب المزاح في أمر أبسط المقدّسات والمعتقدات الإنسانية، فإننا نسترجع كل مقولات ولاية الفقيه وتصريحات الزعماء الإيرانيين حول مشروع انتظار الحكومة العالمية لدولة العدل الإلهي التي روّجت لها الشخصيات المتشددة منها أو الإصلاحية على حدّ سواء.
 
بعد ما ورد من بوح متكرر لغايات مشروع نظام ولاية الفقيه في العراق وسوريا والمنطقة، لم يتبق لنا إلا البوح بموجز استغلال العقيدة في خدمة الأهداف القومية للمشروع الإيراني لبسط نفوذه من خلال تطبيق نداءات “لبيك ياحسين” و”يا لثارات الحسين” على أرض الواقع كخريطة مهمات سياسية تتطابق وتنسجم تماماً مع شعارات الطريق إلى القدس الذي يمر من بغداد والزبداني وغيرها من المدن العربية.
 
الطريق الإيراني إلى القدس لم يعد يتردد بين أصداء حقيقة مصادرة واحتلال المدن والانتقام والثأر منها بنفس طائفي يمثل صلب الدور الإيراني في تهديم مشتركات التعايش المهذبة لشعب العراق.
 
المجتمع الدولي لا يمكنه استحضار واقعة الطف وخارطة سير موكب السبايا لقراءة الأهداف السياسية للنظام الإيراني؛ لكن توفير ممر جغرافي من طهران إلى شواطئ البحر المتوسط ربما يحتمل عدم الشك في وصف نيات وغايات ولاية المرشد، أو تقبل المزاح حول دور عقيدة الميليشيات في التبعية كهامش للحرس الثوري الإيراني في المنطقة.
 
في نفوسنا جميعا ذلك الريب المتعلق بالتضحية بدماء العراقيين من المتطوّعين في الميليشيات الطائفية بحجة فتح ممر إيراني إلى البحر المتوسط، لمعرفتنا بأن العراق بمطاراته وأرضه وحدوده ونظامه السياسي خاضع لإيران.
 
فما علاقة الموصل وتلعفر وسنجار، وقبلها صلاح الدين وسامراء والمدن السورية المتعددة، وصولاً إلى حلب وحماة وحمص ولبنان، ثم دمشق وغوطتها بذلك الممر إلى البحر المتوسط؟
 
إنه طريق الثأر الإيراني متعقباً خط سير موكب السبايا للانتقام التاريخي من المدن التي مر بها الموكب في استغلال أسطوري لفكرة العقيدة والانتماء المذهبي والطائفي والنفسي الذي استهدف تجريد واقعة الطف من عمق أصدائها التاريخية العربية والإسلامية، ومن مذاقها الذي تعايشنا معه في حياتنا كذكرى تحفزنا للقوة والوحدة والتآخي. ذكرى سنوية تم تسييس كل معانيها السامية للزج بها في مشروع تهجير وإبادة وترحيل التعايش السلمي من مجتمعاتنا.
 
لتنتبه المدن والعواصم العربية من انتقالات تلبية ذرائع ولاية الفقيه، وليحذر العالم من مغبة الاستخفاف أو المزاح مع منتجات النظام الإيراني العقائدية والسياسية لأن همجية تنظيم الدولة الإسلامية ونكبات حلب والموصل والغوطة الدمشقية مجرد وقود انتظار لنداء قيام ساحة حرب كبرى، أو لقيام ساعة يبدو أن نظام الولي الفقيه أصبح في انتظار حساباتها بأيدي ومعاول الشعوب الإيرانية قبل غيرها.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد