تعظيم المساعدات العربية لدعم القضايا السياسية - محمد ابو الفضل

mainThumb

18-06-2018 02:22 PM

 كثير من الدول الكبرى انتبهت مبكرا إلى أهمية سلاح المساعدات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية. واخترعت لذلك صناديق وبنوكا مختلفة تقدم معونات بصور متباينة. تطورت المسألة من وسيلة إقليمية ضيقة إلى صيغة عابرة للقارات، تستوعب مناطق عديدة، إلى جانب معونات مادية وعينية تقدمها بعض الدول لإنقاذ حكومات ونجدة شعوب، وتخلق صورة إيجابية لها مردودات سياسية مستقبلية.

 
الدول الغنية والمتوسطة والتي لديها فوائض محدودة، بدأت تسير على هذا الدرب في الحدود التي تسمح بها القدرات المالية. بعضها ضخ جزءا من الأموال في دول كبيرة أيضا، رغبة في الاستثمار البعيد وأملا في امتلاك وسائل لتغيير توجهات سياسية عند من بيدهم الأمر والنهي، ومن يمتلكون مفاتيح القرارات من مؤسسات وجماعات ضغط نافذة.
 
التوسع العربي في هذا الطريق لم يحقق النتائج المرجوة تماما. وظلت الاستثمارات الواسعة للدول الكبرى أداة من أدوات السياسة الخارجية في النظام الدولي، توجد بها بعض الدول موطئ قدم للتأثير الجديد أو زيادة التأثير القديم.
 
الصين، وقبلها بالطبع الدول الاستعمارية والولايات المتحدة، من الدول التي برعت في توظيف سلاح الاستثمار والمساعدات والمعونات. بكين نجحت في حصد نفوذ سياسي في أفريقيا مثلا، جعلها توازن به النفوذ التقليدي لقوى هيمنت لعقود طويلة على القارة، وأضحت مصدر تهديد فعلي لها.
 
بعض الدول العربية قطعت شوطا جيدا في هذا المضمار مع أخرى شقيقة. عندما بدأت موازين القوى تختل وتظهر تأثيرات دول غير عربية على مصالح المنطقة العربية، بدأ يتم الالتفات إلى خطورة هذه المعادلة، التي انتبهت إليها دول مثل إيران وتركيا، وأخذت بعدا إنسانيا كبيرا، لذلك كان الحضور العربي من هذه الزاوية ضروريا لضبط الخلل الناجم عن الاندفاع من قبل كل من طهران وأنقرة والتعاطف مع أزمات شعوب عربية وأفريقية، في ليبيا واليمن والسودان والصومال، وساد اعتقاد زائف أنهما أقرب من عواصم عربية، وظهرت على هذه الساحة كل من الإمارات والسعودية كحوائط للعزل والصدّ وسد الفجوة التي يؤدي اتساعها إلى مشكلات كثيرة.
 
اللافت أن هاتين الدولتين طورتا منهج المعونات الإنسانية إلى منهج للاستثمار والمساعدات المادية السخية، وهو ما تحتاجه دول تعاني مشكلات اقتصادية حادة. أخذت ملامح هذا الاتجاه تتبلور مع دول بعيدة عن التأثير في المصالح المباشرة، لكنها تمس مصالح دول حليفة.
 
لعل زيادة وتيرة التوجه الاقتصادي، الإماراتي والسعودي نحو إثيوبيا، أحد أهم المعالم التي تبلورت مؤخرا وتحمل في طياتها جملة كبيرة من المكاسب المتنوعة. فهو يقلل من أهمية الدور القطري والتركي، ويخفض سقف أي هيمنة اقتصادية لكل من الدوحة وأنقرة على أديس أبابا، التي تعاني من أزمات معقدة، وتحتاج تلقي مساعدات تعينها على التصدي للتحديات التي تواجهها حاليا، وتستكمل بها مشروع سد النهضة الذي يمثل بناؤه بالطريقة التي تريدها إثيوبيا ضررا بالغا لمصر، وهي ركيزة مهمة مع كل من الإمارات والسعودية.
 
دخول رأس المال العربي النقي، يفرمل بالتبعية طموحات الدوحة وأصدقائها، ويجعل أديس أبابا تخفف من قبضة مواقفها السياسية والفنية حيال القاهرة التي أصبحت حليفا أساسيا لكل من أبوظبي والرياض، كما أنه يفتح الأبواب لتعاون إقليمي أكبر تستعد له القيادة الإثيوبية الجديدة، يمكن أن تكون له انعكاسات واسعة على أُطر التعاون المشترك في منطقة شرق أفريقيا التي تطل على البحر الأحمر، خاصة بعد أن تزايدت أهميته الاستراتيجية وباتت ضمن المنظومة الرئيسية في قائمة التعاون الملح بين مصر والإمارات والسعودية.
 
الدول الثلاث تعي جيدا هذا المنطق، وهو ما دفعها إلى اتخاذ سلسلة من التحركات، الاقتصادية والأمنية، التي تكرس نفوذها الحالي، وتسد بعض النوافذ المفتوحة على خصومها ممن حاولوا استغلال الثغرات، وحاولوا التسرب عبر مساعدات ومعونات مريبة، عندما تحول هذا الأسلوب إلى سلاح يمكن التسلل من خلاله إلى دول تحتاج أصلا من يغيثها.
 
الإخفاقات التي واجهها المنهج السياسي المصري في التعامل مع إثيوبيا لسنوات، فرضت على القاهرة تغيير تكتيكاتها، ولجأت إلى تعظيم الاستثمارات، الأمر الذي تكشفت تجلياته خلال القمة التي عقدها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا في القاهرة الأسبوع الماضي، وفيها بدا كأنّ الاقتصاد محور مهم من محاور الدبلوماسية، وسوف تكون له مردودات تحقق ما فشلت فيه أدوات السياسة الخارجية التقليدية.
 
السودان من الدول التي تعاني أزمات اقتصادية حادة، وتحاول قيادته الاستثمار فيها من خلال فتح الباب لتلقّي مساعدات من دول كثيرة ومتناقضة، واستغلال الخلافات المحتدمة بين بعض الدول للحصول على المزيد. وتميل الدولة أكثر إلى هذه وتبتعد عن تلك، ضمن حسابات اقتصادية مصبوغة بمآرب سياسية ليست خفية.
 
منذ وقت قريب كان التعامل الاقتصادي مع الخرطوم يتم بقدر يسير وبحد يمكن وصفه بالكفاف. بعد التمادي في لعبة توظيف الاقتصاد لخدمة السياسة وأخذت الخرطوم تمدد خيوطها مع هذه الدولة، وتنصب شباكها لتلك، ودخل البلد منعطف المزايدات، لأنه يريد الخروج من ورطته الاقتصادية بأي ثمن، ويستثمر امتلاكه بعض الأوراق التي يستطيع المساومة بها لتحقيق أعلى استفادة عينية.
 
المجال أضحى مفتوحا على مصراعيه أمام هذا الطريق، بشكل فرض على دول ربما لا تمتلك رفاهية مادية كبيرة دخوله اضطرارا، لأن التركيز عليه يوفر مزايا نوعية. لذلك انتقل الاقتصاد والاستثمار إلى مرتبة متقدمة، ضمن حزمة الأدوات التي تخدم بقوة السياسة الخارجية ولم تعد محصورة في الثوابت المعروفة. الانفتاح الذي نراه في التفاعلات الدولية وتوظيف نماذج مختلفة وغير مألوفة، باتت له تداعيات تلمس مناطق لم تكن مطروقة جيدا من قبل، ولم يتم التركيز عليها بكثافة.
 
التطور الحاصل في الفضاء الاستثماري والإنساني، إذا أضيف للتقدم الملحوظ في مجال التعاون الأمني، يشي أن الدبلوماسية بصورتها المعروفة سوف تتراجع، لأن هواجس الأزمات الاقتصادية والمخاوف من التوترات والصراعات والإرهاب تمثل صداعا مزمنا في رأس الحكومات والشعوب، بما يهيئ التربة لمزيد من الخروج على الأنماط التي كانت سائدة حتى وقت قريب، وكلها، أي الأنماط القديمة والحديثة، تحولت إلى وسائل تتحكم في مسار بعض القضايا.
 
التوجهات الظاهرة التي يحملها النظام الدولي المتذبذب تشير إلى أننا أمام ملامح نظام جديد، لا يزال قيد التشكيل، نضجه تماما سوف يغير في معتقدات رسخت في أذهاننا، كانت ترى أن الديون وسيلة ضغط ومدخل للاستعمار، تفضل الدول المستقلة الابتعاد عنها.
 
في ظل التشابكات والتعقيدات التي تدار بها العلاقات بين الدول لم تعد هذه القناعة غالبة، لأنه لا توجد دولة، غنية أو فقيرة، تستطيع أن تدير اقتصادها بعيدا عن العالم، بالتالي فكل من التأثير والتأثر يتوقف على درجة القوة والنفوذ وحجم الاستعداد لتقبل الضغوط في القضايا السياسية.
 
العرب اللندنية


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد