إعادة صياغة الأسد .. هل أتى الربيع قبل الأوان؟ - سعد القرش

mainThumb

22-01-2019 04:00 PM

 النصف الأول من العنوان ليس اجتراء على التدخل في شأن سوري، فما يعنيني هو جوهر الظواهر، وما حدث لسوريا وفيها ليس أقل من ظاهرة كونية تستحق التأمل. ما بين الاندلاع التلقائي للثورة في مارس 2011 وإحكام قبضة بشار الأسد في نهاية العام 2018، جرت في النهر دماء، وطفت أشلاء، ودفنت جثث، وابتلع البحر حالمين بالنجاة من الجحيم.

 
وفي هذه الفوضى المدبّرة نهض تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) من رماد الأساطير، واحتل ما يزيد على مساحة بريطانيا، وذكّر العالم بتراث العبودية، وزال من دون أن يجرؤ رعاته وآباء أفكاره المؤسِّسة على الاعتراف به. وغُرّر بالبعض فاستعار من العدو سلاحا رفعه على أخيه، ورقص فوق دبابات غازية تسعى إلى التهام ما بعد لواء الإسكندرون. واجتذبت الأرض السورية مقاتلين لا يتعارفون باللغة العربية وجمعهم الوعد بالجنة. وتعددت مصادر التمويل الباذخ لهدر الدماء وتسديد فواتير الإقامة الفاخرة في أوروبا لكيانات تنطق باسم الشعب الثائر، واستبدال أعداء جدد بالعدو الإسرائيلي بزعم أولوية الخلاص من الطغيان. ثم انتهى المشهد التراجيدي بإعادة تأهيل الأسد، والإفاقة على تفريغ البلاد من نحو أربعة ملايين مواطن، وإثقال المستقبل بقواعد عسكرية روسية هي الثمن طويل الأجل لشهوة الكرسي.
 
ما شغلني هو غياب الوعي بالبديهيات لدى معظم رموز اليسار، وأما اليمين الديني فلا يعول عليه ولا تنتظر منه فائدة؛ وتطعن مسارات التحرر الوطني في إيمانه بفكرة الوطن واقتناعه بالديمقراطية.
 
وكانت تجربة الثورتين التونسية والمصرية إلهاما بجدوى النهج السلمي، لولا رهان مثقفين سوريين طالما انتقدوا أنظمة عربية “رجعية” على أن تتبنى الجزيرة ثورات الشعوب. ولم يكن لمن يفكر، ولو بنصف عقله، أن يثق بصدق أنظمة تحرّم الديمقراطية في التحدث باسم الثورة في الأمم المتحدة. بعض رموز اليسار حثوا من توهموا أنه “العالم الحر” على تسليح الثورة السورية، ولا يتحقق انتصار في مواجهات مسلحة إلا لمن يحتكر الترسانة العسكرية ويسيطر على الجو، وهكذا أعطيت الحجة للمزيد من القمع والتهجير والنسف ببراميل تمطرها الطائرات. أضف إلى ذلك وهم الرهان على “أخلاق” هذا الكيان الغامض المسمّى العالم الحر في نصرة شعب ينشد الحرية، وهي غفلة عن تاريخ لم ينته من استنزاف بلادنا، وتواطؤ أغلب قادة الغرب مع أعتى رموز الدكتاتوريات؛ لتمويل حملات انتخابية أو لبيع المزيد من صفقات أسلحة يثق الطرفان أنها لن تستخدم؛ فهي رشوة قانونية يشتري بها الدكتاتور مدة جديدة من الرأسمالي الأعلى.
 
كلفة الكرسي تزيد على 300 مليار هي الحجم التقريبي لإعادة إعمار سوريا، وفقدان السيطرة على مناطق تحتلها تركيا، وأخرى فيها قواعد أميركية تستعين بقوات “معارضة” تؤدي دور ملوك الطوائف. والثمن الأكبر هو الثروة البشرية وتضم الملايين من المهجرين والقتلى والمختفين، فهل يتخلى مظلوم مغدور عن فكرة الثأر؟ وإذا كان ممولو الحرب الأهلية ومن وراءهم من القوى الدولية فقدوا الأمل في إزاحة الأسد، وقرروا إعادة تأهيل نظامه، فكيف يعاد تأهيل الشعب نفسيا، لكي يتعايش مع ظروف لن تكون أقل قسوة من استبداد فجّر الثورة عام 2011؟
 
هنا أصل إلى النصف الثاني من عنوان المقال، فإذا كانت الثورة حتمية فلماذا تعثرت في تونس؟ وكيف انتهت إلى صيغة عسكرية نابليونية في مصر؟ وأي ضرورة دفعت هواة التهييج الوطني والقومي في سوريا، وفي غيرها، إلى التمسك ببقاء الأسد؟ والسؤال الأهم: هل جاء الربيع قبل أوانه؟
 
في السؤال، بهذه الصيغة، إقرار بأن ربيعا ما مرّ ببلادنا، مهما تكن مأساوية المصائر التي لا تسأل عنها الثورات. سينكر هذه “الحقيقة‏” صنوف من البشر، أولهم الطغاة أنفسهم، تليهم الدوائر المستفيدة، ثم رجال الدين والقضاء والدبلوماسية، وكان أحمد أبوالغيط آخر وزير خارجية في عهد حسني مبارك ضائق الصدر بالثورة حتى يوم تمكنها من خلع الرئيس العجوز. ومع إعادة إنتاج نظام مبارك قال أبوالغيط، وهو الأمين العام للجامعة العربية، الخميس 27 ديسمبر 2018، إن الثورات العربية لم تكن ربيعا “بل دمارا بعد انتشار الإرهاب والتطرف”.
 
بحسن نية، وغالبا بسوء، تُحمّلُ الثورات مسؤولية موجات الإرهاب. مغالطة يتستر خلفها الكسالى، فأن تكون حامل فيروس قاتل تُمنح بعضا من حياة عادية يقصفها مرض أو موت مفاجئ. ومن الشجاعة ألا تتردد في الحسم بإجراء جراحة، وأن تحتمل ما يليها من آلام مرحلة النقاهة. من أصيب خطأ أو عمدا برصاصة مستقرة بالقرب من القلب، يمكنه أن يعيش بحرص حياة ليست حياة. الرصاصة النائمة مصدر تهديد مستمر، ولا تبدأ الحياة الحقيقية إلا بدفع ثمن استخراجها، الثمن هو دم جراحة لم تتسبب في الإصابة وإنما هي بداية التعافي. وليست الثورة إلا جراحة لإنهاء مرض الاستبداد المزمن، وقبل استئصاله ظهرت أعراض جانبية، فخرج التطرف الكامن، واستأسد إرهاب لم تزرعه الثورة، كما لم تخترع الإخوان المتربصين. وإذا كنا قد خرجنا من تجربتهم جرحى، ويتواصل النزيف إلى اليوم، فذلك دليل على أن عام الإخوان في الحكم بداية خير، كما قال عباس محمود العقاد في كتابه “إبليس”، “يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير… فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يُعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده ونياته”. ومن شرور الشيطان أنه أمدّ القبضة البوليسية بعنف يزيد على ما كان قبل العام 2011.
 
ربما جاء الربيع قبل الأوان، فلم نستعد لحمل أمانة الثورة، بالوعي الثقافي والسياسي والديني أيضا. لم تتبع حماسة هدم النظام القديم نزاهة في بناء تصوّر للمستقبل، وكان الاختبار فاضحا لكل مدعي الزهد السياسي، وتكالب الجميع على السلطة، لا فرق بين الإسلاميين والليبراليين واليسار، فذهبت الثمرة إلى الأكثر قدرة على حشد أتباع من العميان. وبدل أن تصبح الثورة حلما بالحرية، أمست كابوسا، وأشرس الكوابيس ما يلازمك في اليقظة.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد