حقول الذهب

mainThumb

20-06-2009 12:00 AM

سليمان ابو شلذم

ذكرني مقال قرأته للمبدع احمد حسن الزعبي بماض غاب عن الذاكرة وكاد يندثر. قبل حوالي ثلاثة عقود من الزمن كان الأردن مكتفيا تقريبا بحاجة السكان من القمح والطحين ويومها كان للخبز الأسمر طعم آخر ولون اسمر يلون الأرض التي نبت فيها والسواعد التي بذرته في الأرض وحصدته منها .
كانت الأيام الأخيرة من شهر أيلول تشكل أول أيام موسم الحصاد ففيها كان يذهب الفلاحون لحرث الأرض حتى إذا حل أول تشرين الأول وهطل المطر وابتلت الأرض وانتشرت رائحة المطر الممزوج بالعشب الجاف وتراب الأرض تهللت الوجوه وانتشر الرجال في الحقول يبذرون القمح والشعير دون انتظار لنشرة جوية تنبئ بموسم زراعي جيد. كان اتكال على الله في الأرض ورزق في السماء نادرا ما ينقص ولكنه لا ينقطع أبدا. وكلما اشتد البرد وحلت الكوانين ودخلت الأربعينية ببردها ومطرها ازداد التفاؤل بموسم زراعي وفير.
اذكر أن الرجال كانوا ينطلقون إلى الحقول في بداية كل شهر ويعودون في المساء وقد احضر كل منهم عينات من زرعه ويجتمعون في المساء حول نار الكانون وكل يقيس طول زرعه ( بالشبر والفتر) ثم إذا ما حل الربيع وبدأت السنابل في التشكل وعلا الزرع وانتشر الدفء في كل مكان اشتممت رائحة الفريك وهو يشوي هنا وهناك وما أجملها من رائحة عند الغروب.
كانت سهول اربد ومأدبا والربة تتلون بلون الذهب في شهر أيار من كل عام حتى إذا حل أول حزيران شمر الحاصدون عن سواعدهم وحمل كل منهم منجلة وانطلق في الصباح الباكر مع آخر غبش الليل وأول شقشقة الأشعة، تملأ أنوفهم رائحة الندي وتدغدغ وجوههم نسمات الصباح الباردة يعملون في صمت وإيمان عميق . حتى إذا علت الشمس وتلونت السنابل بلون الذهب وارتفعت حرارة الأرض ورأيت العصافير بنشاط اقل عرفت حينها أن وقت الإفطار قد حان وحضرت أم احمد وأم حسن وأم حمدان .. وقد حملن على رؤوسهن لفائف خبز الصاج وصحون الزعتر والزيتون والزيت فتحلق الرجال والنساء حول الطعام فرحين مرتاحين شاكرين الله على فضله ونعمائه وما أن ينتهي أبو علي من إفطاره حتى يضجع على جنبه ويشعل سيجارة الهيشي وهو يقيس بعينيه ما تم حصاده وما لم يحصد بعد.
حتى إذا اشتد القيظ وأوت الطيور إلى الظلال وسكنت الريح سكون ما قبل عواصف العصر وما تحرك غير السحالي والهوام لملم الحاصدون أنفسهم ينتظرون إشارة كبيرهم ليعودوا لقيلولة الظهيرة في انتظار شوط العصر.
كانت أيام البيادر من أجمل الأيام يوم كان البيدر( يٌدرس) على الحمير والتراكتورات ( والدر?Zاسات) وغيرها من الأدوات والوسائل. والأولاد يركبون لوح الدراسة ويدورون معه دون كلل أو ملل.
تلك كانت أيامنا وتلك الأيام أصبحت تاريخا وما عاد لها في الذاكرة حيزا أو مساحة وبعد سنوات لن ندري عنها شيئا وسيأتي جيل يعتقد أن القمح ينبت على الأشجار وان الخبز يصنع من خلطة كيماوية. نسينا الأرض وحوًلنا سهول حوران التي كانت الصومعة التي تمد الامبرطورية الرومانية بحاجتها من القمح إلى مساكن خاوية ليس فيها حياة. نسينا المنجل والصاع والبيدر والمحراث والشاعوب والمذراة فما عاد أولادنا يعرفونها أو لماذا كانت موجودة. جمعنا تاريخنا في متاحف وأصبحنا نزور المتاحف لنتعرف على تاريخنا الحاضر وكأنه جزء من التاريخ الماضي. غابت حقول الذهب عن الأرض فغيبتها الذاكرة.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد