بريطانيا تضخ مليارات في البحث العلمي والعرب ما زالوا يحتفلون بالتراث

mainThumb

09-06-2025 09:31 PM

في خطوة استراتيجية تعبّر عن وعي عميق بمعادلة القوة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين، قررت بريطانيا هذا العام تخصيص 86 مليار جنيه إسترليني للبحث العلمي والابتكار، وهو ما يعادل ما نسبته 3% إلى 4% من ناتجها القومي الإجمالي. هذا القرار ليس إجراءً مؤقتًا ولا استجابة ظرفية، بل هو جزء من سياسة وطنية ثابتة ترى في المعرفة والبحث العمود الفقري لأي نهضة حقيقية. بريطانيا لا تنظر إلى البحث العلمي باعتباره رفاهية ثقافية، بل كضرورة وجودية تُحدد موقع الدولة في المستقبل.

لذلك، ليس من الغريب أن تظل دول مثل بريطانيا ضمن دائرة الدول العظمى، لأنها لا تترك مستقبلها للصدف ولا تنتظر المعجزات. هناك، كل جنيه يُستثمر في عقل باحث، يعود بعوائد مضاعفة على الاقتصاد، والصحة، والتكنولوجيا، والأمن، بل وحتى على صمود الدولة في وجه التغير المناخي والكوارث العالمية.

أما في منطقتنا العربية، فالمشهد مختلف تمامًا؛ حيث ما زلنا نتجادل في الأساسيات، ونتساءل: "هل البحث العلمي ضرورة فعلًا؟" في وقت أصبح فيه البحث العلمي أداة استراتيجية لصياغة السياسات العامة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وضمان الأمن الغذائي، والسيادة الرقمية، والتفوق الدوائي. إن نسب الإنفاق على البحث العلمي في غالبية الدول العربية لا تتجاوز 0.3% من الناتج القومي، وإن زادت، فإنها غالبًا ما تُهدر في مؤتمرات شكلية، أو أوراق بحثية تُكتب لغرض الترقية الوظيفية، لا خدمة الوطن.

وفي الوقت الذي تُعد فيه الدول المتقدمة خططًا تمتد لعشرين أو ثلاثين عامًا قادمة، وتبني مراكز بحوث استراتيجية، وتجذب العقول من كل بقاع الأرض، ما زلنا نخصص الميزانيات الأكبر للمهرجانات والاحتفالات والمظاهر الشكلية. حتى المختبرات الجامعية تُعامل وكأنها عبء مالي، لا استثمار استراتيجي.

وهنا لا نتحدث عن أوهام نظرية بل عن واقعٍ نلمسه كل يوم. البيئة الأكاديمية في عددٍ من مؤسسات التعليم العالي لدينا باتت بيئة طاردة للعقول، خانقة للأفكار، مكافِئة للجمود، ومعاقِبة للاجتهاد. الباحث يُعاني من بيروقراطية تُرهقه، وتعليمات تُصاغ بروح إدارية منفصلة تمامًا عن روح العلم والابتكار.

في بعض المؤسسات، التعليمات المتعلقة بالمشاركة في المؤتمرات أو دعم المشاريع البحثية كُتبت بعقلية مناوئة للعلم، وكأنها صُممت خصيصًا لتقويض كل مبادرة، لا لتشجيعها. تراها مليئة بالتعقيدات، تحتاج إلى تفسير قانوني و"واسطة إدارية" لعبورها. أما الردود على مطالبات التعديل، فهي إما صمتٌ مريب أو رفضٌ بيروقراطي بارد. والنتيجة: باحث محبط، مشروع مؤجل، وفرصة وطنية ضائعة.

في المقابل، تُنفق الموارد على فعاليات شكلية، حفلات استقبال، ورشات بلا مخرجات. تُغلق أبواب الإدارات في وجه الباحثين، وتُفتح للطقوس الاحتفالية. وكأن هناك من قرر أن يُقصي كل من يفكر خارج القالب، ويطمح لمستقبل مختلف.

نحن لا نطلب المستحيل. نحن فقط نُطالب أن نُعامل العلم كما يُعامل في الدول التي تحترم نفسها. أن نحترم الباحث لا أن نحاصره. أن نحرر التشريعات من عُقد الخوف والتردد. أن نُعيد الاعتبار للبحث العلمي كمسار استراتيجي، لا بند هامشي.

فهل آن الأوان أن نُفكّر كما تفكر بريطانيا؟ أن نُدرك أن بناء المستقبل لا يكون بالصدفة ولا بالشعارات، بل بالأبحاث، والخطط، والاستثمار في الإنسان والعقل؟

أم أننا سنظل نُطارد التنمية بمكنسة من الماضي، ونخوض معارك الغد بأدوات الأمس؟

#نسخة_للمجلس_الأعلى_للعلوم_والتكنولوجيا



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد