إبداع عربي جديد في كتاب جينيس للأرقام القياسية!

mainThumb

09-12-2009 12:00 AM

د. خالد سليمان
مؤخراً، وعلى نحو ملحوظ، تزايدت "الإبداعات" في وطننا العربي البائس، التي جعلته جديراً بالدخول إلى كتاب جينيس للأرقام القياسية من أزفر الصفحات وأدسمها! وهذا شيء طبيعي بكل تأكيد، ما دامت تلك "الإبداعات" تتعلق في معظم الحالات بإعداد أكبر أطباق الطعام وأوسع أوعية الحلوى، وكأننا أمة لم تعد قادرة على إبهار العالم إلا عن طريق فنون الطبخ والنفخ!
اليوم، أرى من باب الإنصاف أن بلداننا العربية العتيدة تستحق بكل تأكيد أن تدخل جميعها إلى ذلك الكتاب القياسي لتميزها في مجال آخر، لا يتعلق كثيراً بدنيا الطبخ، وإن كنا نستطيع اشتمام رائحة المشمر والمحمر والمقمر منه! وأتحدث هنا عن مجال يفترض أنه مجال علمي وثقافي وتنموي، وأعني هنا مجال تنظيم ورشات العمل والندوات والمنتديات والمؤتمرات وحلقات النقاش وجلسات العصف الذهني ...الخ، هذه الفعاليات ومثيلاتها التي لا شك لدي بأننا أكثر أهل الأرض والسماء تجهيزاً وعقداً لها! والحصيلة الملاحظة لكل ذلك الركام الهائل من تلك الفعاليات، التي لا ينكرها إلا مكابر: المزيد من التراجع والمزيد من المشكلات!
أكاد أجزم أن ما أُهدر من ملايين وربما مليارات الدولارات على قضية مكافحة عمالة الأطفال، كمجرد مثال على الكثير من القضايا الإشكالية التي نعاني منها في واقعنا العربي، ما بين لقاءات "الخبراء" ومشاوراتهم وسفراتهم واجتماعاتهم في أفخر فنادق الشرق والغرب كان يكفي لإيجاد ألف مشروع ومشروع تكفي لاحتضان أغلبية الأطفال العاملين ووضع حلول عملية لمعاناتهم! غير أنني، وبعد خبرة طويلة في مراقبة المجال التنموي، أستطيع القول إن هناك تواطؤاً ضمنياً من جانب جميع الفاعلين المعنيين لإبقاء حال المشكلات التي نزعم أننا نتصدى لمجابهتها على ما هو عليه، إن لم يكن الإسهام في مفاقمتها!
أظن أن "ماركس" هو من قال يوماً في ملاحظة ذكية يبدو أنها لا تخلو من صحة بأن الأطباء يستحقون الشنق، ذلك أنهم يفرحون في أعماقهم بتزايد العلل والأمراض والأوجاع، ولولا ذلك لأصبح وجودهم بلا مبرر! أرى أن تلك الملاحظة العميقة تنسحب علينا تماماً معاشر أطباء المجتمع من المختصين في حقول التنمية في مجالاتها المختلفة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والثقافية والبيئية ...الخ؛ إذ نعمل، بصورة واعية أحياناً، على تضخيم المشكلات الصغيرة وجعل الحبة قبة كما يقال؛ وإلا فمن أين ستأتي المؤتمرات وورش العمل والملتقيات!؟ وكيف سيتم تبرير الرحلات والسفرات، وبأي حجة ستختلق المشاريع وتستدرج العطاءات والصفقات!؟
المشكلة أن تلك الفعاليات التي تفرخ بعضها لم تعد مجرد وسيلة لتحقيق أهداف كبيرة يتم تصديع رؤوس الناس بالحديث عنها، بل أصبحت في معظم الحالات تمثل الأهداف نفسها! فباتت الأنشطة الأبرز والأهم في أي مشروع تتجسد في عقد تلك الفعاليات، التي يعرف الجميع ـ باستثناء بعض السذج من قليلي الخبرة ـ أنها ليست أكثر من تظاهرات احتفالية مبهرجة، يراد منها التغطية على حقيقة تواضع، وربما غياب، الإنجازات الفعلية المفيدة للمشاريع المرتبطة بها!
بالمناسبة، يتم تغطية الأغلبية الساحقة من تلك الفعاليات في وطننا العربي بتمويل أجنبي، وهذا ما يفسر كرمنا الحاتمي في تنظيمها! فنحن نظن ـ ويا لجهلنا ـ أننا لا نخسر شيئاً ما دامت الأموال اللازمة لعقد تلك الملتقيات تنهال علينا من شلالات الدعم الأجنبي، دون أن نفطن إلى أننا قد نسهم في إعطاء الأجنبي الفرصة والمبرر ليخطو خطوة أخرى على طريق المزيد من التحكم بنا وتوجيهنا إلى ما يحقق غاياته ورؤاه، مع كل دولار يدفعه لنا! وإن كنتم لا تصدقون مزاعمي، فارجعوا إلى الكتاب الشهير المعنون: "من يدفع أجرة الزمار... !؟"، لكاتبته البريطانية (فرنسيس ستونر سوندرز)، الذي يثبت، وبالوثائق، أن المخابرات الأمريكية، بالتعاون أحياناً مع المخابرات البريطانية، كانتا وراء دعم وتمويل الكثير من الأنشطة والفعاليات الثقافية والتنموية حول العالم، إبان ما عرفت بفترة الحرب الباردة!
مؤسف حقاً أن نعلم أن بعض المشاريع "التنموية" يُنفق عليها بسخاء أجنبي مريب، إلى درجة العجز الحقيقي لمنفذيها عن إيجاد مصارف شرعية ونافعة لإنفاق المخصصات الهائلة المرصودة لتلك المشاريع، وهو ما يفسر الإقدام على تنظيم مؤتمرات وملتقيات وورش عمل شكلية، وكأننا نقوم بعملية "غسيل" لأموال الدعم الأجنبي! وبطبيعة الحال، لا يمكن للقائمين على تنفيذ تلك المشاريع أن يقوموا مثلاً بالتبرع بجزء من تلك الموازنات الضخمة التي لا يعلمون ما يمكن فعله بها، لصالح مشاريع إنتاجية حقيقية تحتاج إلى كل الدعم والتعزيز، فذلك يُدخلها في باب هدر الموارد وإساءة استعمال المقدرات، وربما الفساد، ولذلك فإن عليها الإبداع في ابتكار أساليب "مشروعة" تضمن تبديد الأموال، وتبدو ورش العمل وجلسات العصف الذهني "الاستجمامية" على رأس قائمة تلك الأساليب الخلاقة!
تلك الملتقيات، لا تمثل في كثير منها في أفضل الأحوال إلا لقاءات "علاقات عامة"، تمنح المرء الفرصة للقاء الأصدقاء، والتعرف بأصدقاء جدد! وكثيراً ما يفرح الموظفون الذين يتم انتدابهم لحضورها أيما فرح، فهم يهربون عن طريقها من مكاتبهم المعتمة، ويجدون الفرصة للقاء بعض الناس، ولإتخام بطونهم بما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب! وكأنهم يذهبون لحضور مناسبة اجتماعية أو فرح أو وليمة، ينبغي التواجد فيها من باب رفع العتب، دون أن يهتم أحد بأسباب الحضور أو أهدافه أو الجدوى منه! لي صديق طيب رأيته صدفة قبل مدة بعد عودته من ورشة عمل دعي إليها، لقد كاد اللعين أن يسيل لعابي وهو يتحدث عن "البوفيه" المفتوح الذي يعج بأطايب المآكل والمشارب، دون أن يستطيع أن يعطيني فكرة واضحة حول الموضوع الذي دارت حوله الورشة!
في تلك الملتقيات البائسة، ترى أناساً يملكون من الجرأة، حتى لا أقول الوقاحة، ما يجعلهم يفرضون حضورهم المتبجح، وكأنها لا تعدو كونها مجرد فرصة لإثبات الوجود واستعراض العضلات والقول لأهل الحل والعقد: نحن هنا! لعلهم يتذكرونهم بمنصب مهم أو بموقع كبير، وهم لا يدرون أنهم لا يثيرون إلا الغثيان والاشمئزاز، ما داموا يسمحون لأنفسهم بالتطفل على كل المواضيع والحقول والمجالات، ويبدون مستعدين للتنطع والتنظير الفارغ حول أي شيء، وكل شيء، بدءاً بالعنف الأسري، وحتى الاحتباس الحراري!
وفي تلك الملتقيات، وبحجة ضيق الوقت وضغطه، يتم خنق أفكار الناس وكلماتهم، فترى في أحيان كثيرة أن الوقت المخصص لعرض ومناقشة ثلاث دراسات كبيرة تعب أصحابها في إعدادها، وربما جاءوا من أقاصي الأرض من أجل تقديمها، لا يتجاوز الساعة والنصف، وربما أقل بكثير! وكأن الهدف من الملتقى هو الحشد الكمي الاستعراضي لأكبر عدد ممكن من الناس فيه، وليس الاستفادة النوعية القصوى مما يمكن أن يقدمه أولئك الناس!
أعذروني، فأنا مضطر للتوقف عن الكتابة؛ إذ إنني مدعو إلى وليمة، عفواً أقصد إلى ورشة عمل، تتناول كيفية النهوض بواقع التنمية في وطننا العربي، فيا للبؤس!!!

sulimankhy@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد